أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

هل أخطأت أميركا؟

أصبح السؤال على كل لسان، بعد التقدم السريع لقوات «طالبان» واستيلائها على العاصمة كابل، وتواتر انتقادات سياسيين وإعلاميين غربيين، لقرار واشنطن الانسحاب من أفغانستان... هل كان القرار خاطئاً؟ أم اقتصر الخطأ، كما يشاع، على المبالغة بقدرة القوات الحكومية في الحفاظ على السلطة؟ واستدراكاً، هل أخطأت واشنطن بقرار اجتياح أفغانستان واحتلالها عشرين عاماً، لإبعاد خطر الإرهاب عن أراضيها؟ ثم هل يبدو البيت الأبيض غير نادم فعلاً، كما أعلن الرئيس الأميركي، على قرار الانسحاب، أم ثمة ما يؤنب الضمير بعد ترك الحالمين بغدٍ أفضل من أبناء الشعب الأفغاني تحت رحمة «طالبان» وحكمها؟ وهل يكفي لتعويض النساء الأفغانيات القول إن صوت واشنطن سيبقى عالياً ضد انتهاكات حقوق المرأة والإنسان في أفغانستان؟
ثمة من يأبى الاعتراف بأخطاء قد ترتكبها قيادة البيت الأبيض تحدوه المبالغة بقدرة وذكاء النخبة الأميركية على اتخاذ القرارات السليمة ربطاً بتنوع أجهزة استخباراتها وبما تمتلكه من كفاءات علمية وتكنولوجية ومراكز أبحاث ودراسات تدقق وتتفحص كل معلومة أمنية وسياسية واقتصادية، وهناك من يرفض إدراج ما تقوم به الإدارة الأميركية أو تتخذه من قرارات في خانة الخطأ والصواب، بل يقرنها بلغة المصالح ويعتبرها إجراءات ضرورية، ما دامت تفضي في نهاية المطاف إلى تمكين أسباب استمرار الهيمنة الأميركية، حتى لو تم ذلك على حساب مصالح بعض المجتمعات ومستقبلها، بينما ثمة من تأسره الرؤية التآمرية ويذهب إلى القول بأن أميركا إنما تراهن اليوم على انسحابها من أفغانستان لخلق فخ سياسي جديد في طريق الصين وروسيا وإيران، متطلعة لإشغالهم وإرهاقهم عبر تحويل جنوب آسيا وشرقها إلى منطقة ملتهبة ومتوترة، بعد عودة «طالبان» إلى الحكم.
في المقابل، يذهب الكثيرون إلى الإقرار بوجود أخطاء ارتكبتها وترتكبها واشنطن في سياق الصراع الدولي على السيطرة والنفوذ، ودليلهم الاعترافات الصريحة لزعماء ومسؤولين في الإدارات الأميركية المتعاقبة بهذه الأخطاء.
فها هم قادة أميركيون أقروا بعد تفجيرات سبتمبر (أيلول) 2001 بأنهم كانوا، وطيلة عقود، ينتهجون سياسة خاطئة ومشينة جوهرها دعم أنظمة فاسدة، ومساندة ديكتاتوريات عسكرية موالية لهم على حساب تطلعات الشعوب وحقوقها في الحرية والعيش الكريم، وكان التعويض بخطة لنشر الديمقراطية حملت عنوان الشرق الأوسط الكبير، تتوجت بمراجعة انتقدت فيها واشنطن بعض اندفاعاتها الأنانية لتأمين مصالحها، ونجم عنها تكريس واقع مرير في بعض المجتمعات، ووصل النقد مثلاً، إلى تقديم اعتذار صريح من الرئيس أوباما عن الدور الأميركي الداعم لشاه إيران في إسقاط حكومة مصدق عام 1953.
وهم مسؤولون أميركيون وجدوا في الدعم المفتوح لجماعات «القاعدة» وإحياء ظاهرة «الجهاديين الإسلامويين»، خياراً مجدياً لهزيمة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، ومنع توسيع نفوذه جنوباً، مثلما وجدوا أن خطأهم كان في الاستهتار بهذه الجماعات، وعدم التحسب من دورها المستقبلي، حين انقلب السحر على الساحر، وفجعت الولايات المتحدة بتفجيرات مرعبة في عقر دارها، ترتب عليها مغامرتان عسكريتان لاحتلال أفغانستان والعراق كلفتاها آلاف الأرواح البشرية وخسائر مادية فادحة، علاوة على الأعباء المضافة جراء التدابير الاحترازية ضد الإرهاب لضمان أمنها وتأمين مصالحها في العالم.
وأيضاً هم قادة عسكريون وسياسيون أميركيون من جاهروا بارتكاب خطأ كبير بغزو العراق، وتالياً بما تبعه من قرارات خاطئة، كحل الدولة والجيش العراقيين وتكريس مبدأ المحاصصة الطائفية والإثنية في بناء السلطة وإدارة البلاد، الأمر الذي ساهم في تسعير الصراع المذهبي وحفز قوى التطرف الإسلاموي، وأجبر واشنطن على ترتيب انسحاب من العراق بدا كالهروب من سفينة توشك على الغرق. وهم أنفسهم من اعترفوا بأن تلك الأخطاء ساهمت في تعزيز النفوذ الإيراني على أهم مفاصل نظام بغداد، وإجهاض حلم العراقيين بالتغيير وبناء مجتمع المواطنة الديمقراطي.
ثم ألم يعلن بعض الزعماء الأميركيين بأن الاتفاقية النووية مع إيران كانت مطباً وفخاً، وأنها لم تمنع إيران للحظة من السير خطوات خفية نحو تخصيب الوقود النووي، كما لم تعقها، بل على العكس، مكنتها من التمدد وتوسيع تدخلاتها في شؤون المنطقة؟
وأيضاً، ألم يعترف تباعاً، عدد من السياسيين الأميركيين المهتمين بالشأن السوري، بارتكابهم خطأ جسيماً لعدم اكتراثهم بتفاقم حدة الصراع هناك حتى اكتظ، بعد سنوات، بكل أساليب العنف والفتك وبجماعات التطرف والإرهاب وبصور مفزعة عن الخراب وأعداد الضحايا والمعتقلين والمشردين؟
وهل غريباً أن تشهد، قريباً، الساحة السياسية والإعلامية الأميركية، مزيداً من الاعتراضات على قرار الانسحاب من أفغانستان، ربطاً بالمخاطر المترتبة على الاستقرار والأمن العالميين، بعد تسلم «طالبان» السلطة؟
تلك الأمثلة الصارخة عن اعترافات الإدارة الأميركية بما ارتكبته من أخطاء، تثير الشكوك والتساؤلات حول سبب فشل القوة الأكثر امتلاكاً للكفاءات والنفوذ، في رسم سياسات ناجعة، هل هو ضعف الإحاطة بالوقائع والتطورات المحتملة، وتالياً العجز عن تظهير صورة دقيقة للواقع؟ أم لعله الغرور الإمبراطوري المستهتر بمصائر مجتمعات الغير، كما بادعاءاته عن نصرة قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان؟ أم لعل تلك الأخطاء والمطبات، ناجمة عن الخلافات المزمنة بين مراكز قوى أميركية تتفاوت حساباتها ومصالحها، كما تتباين فيما تمتلكه من معطيات ومعلومات وفي طرائق إدارتها للمصالح الأميركية.
والحال، إذا بقيت لغة المصالح الجافة والطمع البغيض في قطف ما طاب لها من ثمار النفوذ والاستئثار هاجساً للسياسة الأميركية فلن تخلص الشعوب الضعيفة مما تعتقده أخطاء ترتكب بحقها، ولن يفاجئنا أن تتخذ واشنطن مواقف مؤلمة تبدو أشبه بالخيانة لمصالح هذه الشعوب وحقوقها، إن وجدت في ذلك وسيلة لتعزيز هيمنتها ولمقارعة نفوذ خصومها، أو ربما لتخفيف التكلفة والحمل عن كاهلها.
والمفارقة، أن تأثير ما ترتكبه النخبة الأميركية من أخطاء في سياستها الخارجية يبقى محدوداً على الولايات المتحدة نفسها التي تمتلك من الإمكانيات ما يمكنها من تخفيف الأضرار الحاصلة وإبقائها في الحدود الدنيا، لكنه يترك آثاراً خطيرة ومدمرة على المجتمعات الصغيرة والضعيفة التي غالباً ما تدفع لقاء ذلك أثماناً باهظة من حيوات أبنائها ومستقبلهم.