جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

جواسيس وحرب متواصلة

من الصعوبة بمكان على كل أولئك الذين وُلدوا وكبروا، عقب نهاية الحرب الباردة، في أوائل التسعينات من القرن الماضي، تخيّل طبيعة أجواء تلك الحرب الطويلة والمرهقة -مهما حاولوا- وما كان يتخلل ساحاتها العديدة من حوادث وتطورات خطيرة. أما الذين عاصروها فهم على دراية بها. وأنهم، من دون شك، يحمدون الله على نهايتها، وإسدال الستار على حقبة زمنية تميزت بانقسام العالم إلى معسكرين نوويين متعاديين، وبتوتر في مسار العلاقات الدولية، وربما بشكل غير مسبوق في التاريخ الإنساني المعاصر.
وما كشفت عنه الأخبار، خلال الأسبوع المنقضي، من نجاح المخابرات الألمانية والبريطانية في القبض على عميل مجنّد من المخابرات الروسية في برلين، بريطاني الجنسية يعمل موظف حراسة بعقد محلي في السفارة البريطانية، وما أثارته العملية من ضجيج إعلامي، ربما يتيح لمن لم يعايشوا أجواء الحرب الباردة فرصة للتعرف على جانب مهم منها وشديد الخطورة والأهمية. لأن الحادثة لارتباطها تحديداً بمدينة برلين أهم مراكز الجوسسة في تلك الحرب، وبما كشف عنها من تفاصيل في وسائل الإعلام البريطانية والألمانية على وجه الخصوص، تعود بالذاكرة عقوداً زمنية طويلة إلى الوراء، وقد تعيد إلى أذهان عديدين ممن عايشوها قصصاً وحكايات مماثلة تابعوا تفاصيلها في وسائل الإعلام. بعضها تلقفته استديوهات السينما الأميركية والأوروبية وحوّلته إلى أشرطة سينمائية لا تنقصها الإثارة. إضافة إلى ما نشرته المطابع من كتب بلغات عديدة، حولها.
حادثة الجوسسة في برلين مؤخراً تفتح باباً على مصراعيه أمام سؤال لا بدّ من مواجهته: هل من الممكن أن نكون شهوداً على بدء حقبة جديدة في العلاقات الدولية، أهم ما يميزها تورط أطرافها في حرب باردة، أخرى ومختلفة؟
يردد الكثيرون مقولة إن التاريخ لا يعود للوراء. وهذا بدوره، إن سلّمنا به، سيُفضي بنا إلى التفكير بعيداً عن أجواء عقد مقارنات بين الحرب الباردة الأولى وأي حرب باردة جديدة قد تنبثق، نتيجة لما حدث في العالم من تطورات وتغيّرات، وما أحرزه التطور الإنساني من تقدم في مجال التقنية، حتى كدنا نتحول إلى كائنات تكنولوجية. لكن القبول بوجهة النظر هذه يعني ضمنياً أننا صرنا على قطيعة كاملة مع الحرب الباردة الأولى، الأمر الذي قد لا يؤكده الواقع أو تثبته الوقائع. صحيحٌ أن الحرب الباردة انتهت فعلياً. لكن تجنيد الجواسيس من أطراف تلك الحرب لم يتوقف. المصادر الإعلامية البريطانية تشير إلى وجود أكثر من 200 جاسوس روسي يعملون في بريطانيا لصالح المخابرات الروسية. المصادر نفسها تُحجم عن ذكر عدد الجواسيس الذين جنّدتهم بريطانيا أو أميركا أو كلتاهما في روسيا، وفي غيرها من البلدان وثيقة الصلة بموسكو. أضف إلى ذلك أن ما يظهر في الأخبار من حالات اعتقال لجواسيس من أجهزة أمنية تابعة للطرفين لا يعني أن ذلك يتم في كل الأحوال. والحقيقة هي أنه في كثير من حالات كشف الجواسيس واعتقالهم، لا تصل أخبارها إلى وسائل الإعلام، كونها تتم في الظلام وتحت السطح، لأسباب كثيرة تخص آليات عمل الأجهزة الأمنية وتعقّد العلاقات فيما بينها. كما أنه من اللافت أن تلك الأجهزة، من الطرفين، تقوم بتجنيد عملاء لها، وهي على علم بتورطهم في اللعب على الحبلين، بهدف تزويدهم بمعلومات مغلوطة، تعرف أنهم سيهرعون بتسليمها إلى أجهزة أمنية معادية. وإذا كان تجنيد العملاء من الطرفين في الماضي، أي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يعتمد إلى حد كبير على استغلال العامل الآيديولوجي للعملاء، فإن تلاشي الآيديولوجيا من الصراع بانهيار الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينات من القرن الماضي، أتاح للمال احتلال الصدارة.
في الحادثة الأخيرة، في برلين، تبين أن موظف الحراسة البريطاني سلّم معلومات للمخابرات الروسية مقابل تسلمه نقوداً. ورغم أن منزلته المهنية في السفارة، موظف حراسات محلي، لا تتيح له الوصول إلى معلومات أمنية أو سياسية تتسم بالخطورة والسرية، كما يقول المختصون، فإن حرص المخابرات الروسية على الوصول إليه وتجنيده، يشي برغبتها في الحصول على أي معلومات قد تصل إلى أسماعه صدفة، أو يرصدها خلال ساعات وجوده في مبنى السفارة. ولجوء المخابرات الروسية إلى تجنيده، ربما يفسر، إلى حد كبير، أن التقدم التكنولوجي الهائل، وما أحدثه من تطورات في أساليب الجوسسة دولياً، وإلى حدّ الآن، ليس كافياً للاستغناء على العنصر البشري، من الجنسين، ومن مختلف الأعمار والرتب.