د. ياسر عبد العزيز
TT

«داعية إسلامي»... وقناة إخبارية

في المقابلة التي أجرتها قناة «العربية» مع الداعية المصري الدكتور عمرو خالد، الأسبوع الماضي، الكثير من الدروس والعبر، ليس فقط لأنها فجّرت الكثير من الجدل حين شهدت محاولة انسحاب من جانب الضيف اعتراضاً على أسئلة بعينها، ولكن أيضاً لأنها تسلّط الضوء على موضوع إشكالي يخصّ أخلاقيات إجراء المقابلات الإعلامية.
لقد استضافت قناة «العربية» الداعية المعروف لإجراء حوار معه حول قضايا معينة تُثار حوله، وحين سعى المُحاور الإعلامي خالد مدخلي، إلى تركيز النقاش عبر طرح الأسئلة الأكثر إلحاحاً وأهمية بالنسبة إلى الجمهور، فوجئ بممانعة حادة من جانب الضيف، الذي يبدو أنه اعتزم تحويل المقابلة إلى حصة دعائية يكسب منها المزيد من المُريدين والمعجبين.
وعندما أظهر المُحاور عزمه على عدم التفريط في الهدف المهني للمقابلة، عبر الإصرار على توجيه الأسئلة الأكثر ارتباطاً بموضوع اللقاء والأكثر أهمية لدى الجمهور في شأن الضيف ومسيرته وأدائه، راح عمرو خالد يراوغ ويهرب، قبل أن يهدّد بالانسحاب لفرض إرادته.
المقابلة الإعلامية ليست حصة دعائية تستهدف تلميع الضيف وترك الساحة خالية له لاختيار موضوع الحديث وكسب المؤيدين، بل محاولة استقصائية تهدف إلى تسليط الضوء على جوانب جدلية في أداء الضيف ومسيرته، وصولاً إلى تعزيز فهم الجمهور عبر تقديم الإجابات اللازمة عن أسئلته المُلحة.
لا يحق لشخص عام، يكتسب مكانته ورزقه وشهرته ونفوذه من اتصاله بالجمهور، أن يُحجم عن الإجابة عن أسئلة تخصّ مسيرته العمومية ومحطات بارزة في أدائه... طالما أنها لا تنتهك خصوصيته ولا تنطوي على إساءة أو تجريح.
يجسّد عمرو خالد حالة نخبة من الدعاة الذين قدّموا أنفسهم إلى المجال العام بوصفهم قادة روحانيين، يتعمّقون في فهم الدين الإسلامي، ويلمّون بجوانبه القيمية والأخلاقية، ويستثمرون شغف الجمهور بالتديّن، وتعلقه بالرموز الدعوية، من أجل الحصول على أكبر قدر من المطاوعة والتأثير.
ولأن الحالة السياسية والاجتماعية والثقافية في العالم العربي كانت مواتية لعقود من الزمن لتسويق تلك الصيغة والاستثمار فيها، فقد سخّرت وسائل إعلام جماهيرية جزءاً مُعتبراً من طاقاتها لخدمة هذا الاتجاه، وهو الأمر الذي خلق نجوماً ومؤثرين لعبوا أدواراً ملتبسة في فترات التحول الخطيرة التي شهدتها المنطقة في العقد الماضي.
لقد أدركنا لاحقاً، للأسف الشديد، أن بعض أعضاء تلك النخبة لم يكتفوا بتحقيق الهدف الروحي والقيمي المعلن والمشروع والمُحبذ في آن، لكنهم راحوا يخلطون بين التديّن من جانب، وبين السوق والسياسة من جانب آخر.
في سجل عمرو خالد - وكثيرين غيره من هؤلاء الدعاة - ما يستحق الوقوف عنده، وما يستحق توجيه الأسئلة، ومن واجبه أن يردّ وأن يوضح، طالما رغب في الظهور ومخاطبة العموم لتوسيع رقعة تأثيره والحفاظ على مكانته. ومن ذلك ما يتصل بعلاقته بتنظيم «الإخوان»، وما يتعلق بالدور السياسي الذي لعبه في أعقاب انتفاضة يناير (كانون الثاني) 2011، وما يختص بخلطه بين الديني وبين السياسي لنصرة اتجاه وفصيل راغب في الحكم آنذاك.
ومن ذلك أيضاً ما يتعلق بعلاقة هذا الداعية بالسوق؛ إذ عليه أن يوضح للجمهور كيف يمكن أن يُسوق داعية ديني مُعتبر لمتابعيه ومريديه فكرة أن شراء دجاجة تحمل علامة تجارية معينة، ثم التهامها على العشاء، يمكن أن «يساعد المرء في الارتقاء الروحي».
ألا يحق للمذيع خالد مدخلي، الذي يعمل في قناة إخبارية مرموقة، أن ينوب عن الجمهور المتعطش للفهم والمعرفة في طرح سؤال على الداعية الشهير عن علاقة التدين والروحانيات بخدمة أغراض السياسة الحزبية والسوق؟ وهل يحق للضيف المشهور أن يمتنع عن الرد عن الأسئلة التي تشغل الجمهور... وأن يحاول أن يخطف المقابلة لكي تخدم أهدافه الجديدة في إعادة التمركز واستعادة الوجاهة وغسل اليد من الزلات على حساب أولويات الجمهور، وعلى حساب التزامات الوسيلة الإعلامية بخطها التحريري وضرورة إبعاده عن أغراض الدعاية؟
أراد عمرو خالد من المقابلة أن تكون فرصة من نافذة واسعة ومنصة مؤثرة يستعرض خلالها «اجتهاداته الروحانية»، وانشغالاته المفترضة لكسب أرض جديدة، بينما أرادت «العربية» تحقيق مقابلة مهنية تطرح أسئلة جادة تلبّي أولويات الجمهور وتخدم الحقيقة.
عانى الفضاء الإعلامي العربي لعقود من الاستسلام لرغبات بعض الدعاة الذين تربّحوا مالياً وسياسياً من نزعات التديّن الشكلية، بل وأسهم، للأسف الشديد، في أحيان عديدة، في تكريس مكانات غير مستحقة لهم، وقد حان الوقت لمقاربات أكثر مهنية لتجاوز هذا الخطل.