أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

شرط إعادة الإعمار!

ثلاث نقاط تؤكد صحة ما ذهب إليه المجتمع الدولي عن أولوية تنفيذ القرار 2254 الذي أقر بالإجماع في مجلس الأمن عام 2015 ويتضمن إحداث انتقال سياسي في سوريا، كشرط ضروري ولازم، للمشاركة في إعادة الإعمار.
أولاً، من الواضح أن النظام السوري الذي دأب على رفض وإفشال أي معالجة سياسية للصراع الدائر، دأب أيضاً على توسل إعادة الإعمار، ليس كفرصة للتعافي الاجتماعي والاقتصادي ولترميم ما تهدم ودمر، بل لتحقيق مكاسب سياسية وتعويض خسائره المالية، والدلائل على ذلك كثيرة، تبدأ بتسخير الأموال التي دفعها السوريون كضرائب تحت عنوان إعادة الإعمار، ليس لبناء المرافق الحيوية وتحسين شروط حياة الناس وتخفيف معاناتهم المعيشية، بل لتغذية خيار العنف والحرب، مروراً بفرض آليات واشتراطات على عمل وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المعنية بإعادة تأهيل البنى التحتية والمساكن، كي يتمكن النظام من التلاعب بما تقدمه من مساعدات إنسانية، عبر الاستيلاء على القسط الأكبر منها أو التحكم بمواقع ووتيرة تنفيذ ما تقترحه من مشاريع، وانتهاء بتمرير ما يصح تسميته إعادة إعمار انتقائية تقوم على سلسلة من القوانين المحدثة التي تطعن بحقوق السكن والأرض والملكية، وأبرزها القانون رقم 10 لعام 2018 الذي يسهل وضع يد الحكومة على المناطق والأحياء التي كانت ساحات للقتال وباتت خراباً، بهدف معاقبة البيئة الشعبية المعارضة والعبث بالمشاريع العمرانية، وتثبيت التغييرات الديموغرافية التي تجد الحكومة فيها ما يرسخ فسادها وتسلطها.
ثانياً، تراجع الحماسة عند دول غربية وعربية راهنت على مساهمتها في إعادة إعمار سوريا لمزاحمة الوجود الإيراني هناك، تمهيداً لفك ارتباطه مع هذا البلد، ربما لأنها أدركت حقيقة أن النظام السوري يبيع الأوهام فيما أطلقه من إشارات توحي برغبته في التحرر من النفوذ الإيراني، ربطاً بتجارب ملموسة أكدت، خلال سنوات مديدة، مدى قوة الروابط بين حكام دمشق وطهران وصعوبة إن لم نقل استحالة فك عرى التحالف بينهما، فكيف الحال حين لا تثق هذه الدول بنظام طعنها في ظهرها غير مرة، وتعرف أنه لن يثق بها أيضاً ما دامت قد عارضت عنفه بشدة وأدانت انتهاكاته، وتعرف أيضاً أن سلطة دمشق لن تنسى كيف مكنتها طهران من الصمود وساعدتها ولا تزال في تعزيز سيطرتها إرهاباً على الدولة والمجتمع، وربما لأنها تتحسب محقة من تحول القدرات المالية والفنية التي توظفها في إعادة إعمار سوريا، إن لم ينفذ القرار الأممي، إلى رصيد موضوعي للنفوذ الإيراني، يخفف عنه الأعباء ويمكنه من تعزيز مواقعه وتغلغله في المجتمع السوري ومؤسسات الدولة، ويزيد الطين بلة الدخول الصريح للصين على خط إعادة الإعمار، والتي باتت تمتلك مصالح واسعة مع حكام طهران، تتوجت باتفاق استراتيجي بينهما يتضمن تعاوناً متميزاً في مختلف المجالات.
صحيح أن حلفاء النظام في طهران وموسكو لا يمتلكون القدرة على تبني عملية إعادة إعمار قدرت بحدها الأدنى بقيمة 400 مليار دولار، ما داموا، هم أنفسهم، يرزحون تحت وطأة ضغوط وعقوبات واسعة ويعانون من تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ويجدون صعوبة، يوماً تلو آخر، في الحفاظ على المستويات الضرورية من الدعم المالي والمادي المقدم للنظام السوري، وصحيح أن المساهمة المجدية في إعادة الإعمار تستند أساساً إلى دول غربية وعربية تمتلك الإمكانيات التمويلية، لكن الصحيح أيضاً أن هذه الدول لن تقدم على هذه الخطوة من دون قيام نظام دستوري وإجراء إصلاحات سياسية جذرية، وإلا ستغدو كمن يمد يد العون لخصمه، ويمنح حكام دمشق وطهران فرصة لتخفيف أزماتهم ولتغطية ما ارتكبوه بحق الشعب السوري خلال سنوات الصراع الدامية.
ثالثاً، إن الخراب السوري لا يقف عند تدمير العمران والبنية التحتية والمرافق الاقتصادية والنسيج الاجتماعي، بل هو خراب طال، وهذا الأخطر، ركائز استمرار الوطن، وقدراته على النهوض من أزماته والشروع ببناء مستقبل واعد للأجيال القادمة، ما يعني أن إعادة الإعمار لم تعد في خصوصية الحالة السورية، مسألة تقنية أو استثمارية وتتعلق بالعمران والبنية التحتية المدمرة، بل غدت مسألة سياسية بامتياز تستند إلى ما سوف يرسو عليه الوضع السياسي في البلاد، وترتبط أشد الارتباط بمختلف القضايا التي يمكنها خفض مستوى الاحتقان، منها قضايا التوافق على دستور جديد وصيغة الحكم ومصير المعتقلين والمغيّبين والمحاسبة والمصالحة وعودة النازحين واللاجئين.
فكم هو مؤلم ومهين أخلاقياً وإنسانياً أن تتقدم عملية إعادة الإعمار من دون سلطة جديدة تضع في صلب اهتمامها إطلاق سراح من بقي حياً من المعتقلين، والتعويض لمن عاشوا ظروفاً لا يتصورها عقل من شدة القهر والتعذيب، أو من دون كشف مصير المفقودين وتعرية حقيقة وأسباب تغييبهم والطرف الذي وقف وراء ذلك، أو من غير معالجة تداعيات الظلم وإنصاف ما يقارب مليون ضحية وتكريمهم، بما في ذلك كشف عشرات المجازر الوحشية ومحاسبة مرتكبيها؟
وكيف يمكن أن تسوق عملية إعادة الإعمار إن لم توجد حكومة ذات صدقية تضع في صلب مهامها إرجاع الملكيات المسلوبة إلى أصحابها، وتعمل جادة على وقف خطط التغيير الديموغرافي، بل تفرض التراجع عما حصل من تبدلات في التموضع الاجتماعي على أساس عرقي أو ديني؟
ثم ما الجدوى من إعادة الإعمار من دون ضمان عودة لائقة وآمنة للاجئين السوريين، التي لن يحققها سوى الشرط الأممي المتعلق بإحداث تغيير سياسي في البلاد، لأنه وحده الكفيل بتشكيل مناخ آمن يشجعهم على العودة، خاصة عندما يتكامل مع ضمانات دولية كافية تتعلق بحمايتهم والحفاظ على حياتهم وصون كرامتهم؟
وهل يصح التعويل، من دون تغيير سياسي، على إنعاش السلم الأهلي وبناء حد أولي من الثقة بين أبناء الشعب الواحد لتغذية إرادة العيش المشترك بين الناس، وتشجيعهم على تجاوز قسوة آلام الحرب وما خلفته من أحقاد وجروح عميقة في النفوس؟
وأخيراً، بأي عين يمكن النظر إلى إعادة الإعمار من دون تسوية سياسية تنتج حكومة قادرة على إخراج مختلف القوات الأجنبية من سوريا، ووقف رهن اقتصادها لجهات خارجية عبر اتفاقيات مجحفة تسلب الشعب السوري ليس حريته واستقلاله فحسب وإنما أيضاً ثرواته؟!