جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

بريطانيا وارتباك «يوم الحرية»

يوم الاثنين 19 يوليو (تموز) 2021، كان الموعد الذي حددته الحكومة البريطانية لرفع القيود المفروضة صحيّاً على مواطني إنجلترا، وقاية واحترازاً من الإصابة بالوباء الفيروسي «كورونا». من جهتها، وقبل فترة زمنية من وصوله، أطلقت وسائل الإعلام البريطانية على ذلك اليوم اسم «يوم الحرية - Freedom Day». واقعياً وفعلياً، أن يوم الحرية المأمول والمرتقب، تحوّل قبل حتى أن يحطَّ برحاله في ربوع البلاد إلى يوم ارتباك وإرباك. البعض أطلق عليه اسم «يوم الكارثة»، في حين أن آخرين أطلقوا عليه اسم «يوم الاستسلام للوباء ورفع الراية البيضاء». وما حدث هو أن الوباء الفيروسي في آخر تحوّراته، التي أطلق عليها العلماء المختصون اسم «دلتا جنوب أفريقيا»، انتشر بسرعة بين المواطنين، قبل أيام من الموعد المقرر، وفاقم بشكل ملحوظ في تصاعد أعداد المصابين بالوباء، وخاصة بين الشباب.
أعداد المصابين وصلت إلى 54 ألفاً يومياً، وتعدّ الأعلى في كل أوروبا. التطورات الجديدة هذه أحدثت ارتباكاً ملحوظاً في الحكومة، وسببت انقساماً في الرأي بين أعضائها. رئيس الحكومة بوريس جونسون، ووزير الخزانة ووزير الصحة اتفقوا على عدم تغيير الموعد المضروب لرفع القيود، اعتقاداً منهم بتكفل المواطنين بمراعاة الاحترازات الصحية الوقائية اللازمة. البعض الآخر من الوزراء رأى ضرورة التمهل حتى تتبين الأمور بوضوح، ولا بأس من اللجوء إلى تأخير موعد رفع القيود، كإجراء احترازي، لكي لا تتسبب في زيادة الإصابات. الانقسام في الرأي لم يقتصر على الوزراء، بل طال أيضاً العلماء المختصين، سواء من المستشارين لرئيس الحكومة أو غيرهم. الفريق القريب من رئيس الحكومة رأى أنه لا ضرر من رفع القيود، في الموعد المحدد، لأن أغلبية المواطنين تحصنوا باللقاح من الإصابة من الوباء.
وأن الإصابات لو حدثت لن تكون قاتلة، كما كانت في بداية وصول الوباء. فريق آخر وقف في الضفة المقابلة، واعتبر أن الأمر مخالفة صريحة للوقاية الصحّية، ويشكل تهديداً صحّيا للمواطنين، وسوف يراكم من تفاقم المشاكل في القطاع الصحي، الأمر الذي قد يؤدي به إلى الانهيار بالكامل. وأدان أكثر من 100 طبيب وعالِم، في رسالة وقعوها ونشرت في وسائل الإعلام، خطوة رفع القيود، واعتبروها «خطيرة وتجربة غير أخلاقية».
وخلال حمّى النقاش في وسائل الإعلام، أعلن وزير الصحة، فجأة، في تغريدة نشرها في وسائل التواصل الاجتماعي يوم السبت الماضي، أنه وقع ضحية الفيروس الجديد، رغم أنه تلقى جرعتي اللقاح. والتزم بعزل نفسه صحّياً في بيته، ومؤكداً أن الأعراض خفيفة. تلك الاصابة ساهمت بدورها في إضعاف موقف رئيس الحكومة، بل واضطرته، مع وزير الخزانة، إلى الالتجاء للعزل الصحّي، بعد أن تبين التقاؤهما في اجتماع مع وزير الصحّة في اليوم السابق.
مضافاً إلى ذلك، ارتفاع نسبة الشكاوى من قطاع رجال الأعمال بسبب اضطرار الكثير من العاملين في النشاط الاقتصادي إلى العزل الصحّي، مما تسبب في نقص الخدمات، بل والتجأت بعض الشركات والأسواق الكبرى إلى إقفال بعض فروعها مؤقتاً بسبب نقص العمالة، في حين أن دولتين هما هولندا وإسرائيل تراجعتا عن قرارهما برفع القيود المفروضة على المواطنين، وأعلنتا العودة إلى فرضها مجدداً. ورغماً عن كل تلك المحاذير الخطيرة، ركب رئيس الوزراء جونسون أعلى خيله، وقرر عدم التراجع عن الموعد المضروب، مبرراً ذلك بأنه ما لم يتم رفعها الآن فلن ترفع أبداً. وتفسير ذلك في نظري هو أن الحكومة قد نالها الإرهاق والتعب من جراء تلاحق مسلسل الوباء وتغيراته من دون توقف، وأنها، ممثلة برئيسها، قررت نزع حبل المسؤولية من رقبتها، ولفه حول رقاب المواطنين. وعليهم تدبر أمورهم بأنفسهم. قرابة 35 مليون مواطن بريطاني تلقوا جرعتي التطعيم، و11 مليوناً آخرون تلقوا جرعة واحدة. وما حدث بعد رفع القيود أضحى حكاية معروفة للجميع. المسارح والمعارض الفنية ودور العرض السينمائي والملاهي الليلية والحانات والمقاهي والمطاعم استأنفت نشاطها كما كان الأمر قبل حلول الوباء، ولم تعد ملزمة بتنطبيق القواعد الصحيّة الاحترازية مثل التباعد الاجتماعي.
الوحيد الذي خرج عن الخط الرسمي كان عمدة مدينة لندن، بتأكيده على ضرورة التزام مستخدمي المواصلات العامة بوضع الكمامة الصحّية.
يوم الحرّية المأمول تحوّل إلى يوم الحرّية الشخصية. بمعنى أن المواطن، منذ ذلك اليوم فصاعداً، عليه وحده تقع مسؤولية الاختيار بين مواصلة التزامه بالقواعد الوقائية والاحترازية حفاظاً على حياته وحياة غيره من المواطنين، أو تجاهلها، وبالتالي تحمّل العواقب. المشكلة أن العواقب لن تقتصر على الشخص المتجاهل وحده، بل تطالُ غيره.