خالد البسام
كاتب ومؤرخ بحريني
TT

مصائب مؤلف

مع بداياته في الكتابة والنشر وتأليف الروايات نشر الروائي الكولومبي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز تأملات ذاتية تحدث فيها عن محنة الكتابة، وكانت بعنوان «مصائب مؤلف كتاب»، وقال في بعض تلك التأملات إن تأليف الكتب مهنة انتحارية، إذ ما من مهنة غيرها تتطلب قدرا كبيرا من الوقت، وقدرا كبيرا من العمل، وقدرا كبيرا من التفاني مقارنة بفوائدها الآنية. إنني لا أعتقد أن عددا كبيرا من القراء يسألون أنفسهم بعد الانتهاء من قراءة كتاب ما، عن عدد الساعات المؤلمة والبلاوي المنزلية التي مرت على المؤلف أثناء تأليف مائتي صفحة، أو ما هو المبلغ الذي حصل عليه لقاء عمله. وبعد هذا التقويم المحزن للبلاوي، يبدو من الأساسي أن نسأل عن السبب الذي يجعلنا نحن إلى الكتابة.
ويجيب ماركيز عن سؤاله قائلا: الإجابة في آخر الأمر هي ميلودرامية بقدر ما هي مخلصة. فالمرء بكل بساطة يكون كاتبا... أو يكون أي شيء آخر. النجاح يحفز الإنسان والخطوة عند القارئ مشجعة. ولكن ليست هذه الأشياء سوى مكاسب إضافية، لأن الكاتب الجيد سيظل، على كل حال، يكتب باستمرار، حتى إذا كان حذاؤه بحاجة إلى إصلاح، وحتى إذا كانت كتبه لا تلقى رواجا.
بسبب الإيمان الراسخ لدى ماركيز قام بإرسال نصف مخطوطة روايته الشهيرة «مائة عام من العزلة»، التي حصل عنها على جائزة نوبل للآداب، عبر البريد إلى الناشر الأرجنتيني، لأنه لم يكن يملك من المال ما يكفي لإرسالها كلها. أما النصف الثاني من الرواية فقد أرسله بعد أن رهنت زوجته المدفأة الكهربائية ومجفف الشعر والمفرمة الكهربائية، وهي آخر ما تبقى لهما في البيت من حاجات منزلية، بعد أن باعا أو رهنا كل ما يملكان.
لكن النكتة التي لم تكن تخطر على البال، هي أن الناشر الأرجنتيني بعث ببرقية إلى ماركيز يقول له: لقد أرسلت لي الجزء الثاني من الرواية بالبريد أولا، كيف سأتمكن من قراءتها أيها الأحمق.
وبسرعة وعن طريق الرهن كما قلنا أرسل ماركيز الجزء الأول متأخرا عن الجزء الثاني بنحو شهر كامل. وعلقت زوجته ميرثيديس على تلك اللخطبة قائلة: غابو.. لا ينقصنا الآن سوى أن يكون الكتاب سيئا!
لكن الحمد لله، فالكتاب لم يكن سيئا على الإطلاق، بل صنف بأنه من أجمل الروايات التي كتبت في القرن العشرين، وعن هذه الرواية وحدها استحق أن يحصل على نوبل عام 1982 باستحقاق.
وهذا الرجل الجائع آنذاك، لم ييأس فواصل الكتابة رغم يقينه أن مهنته الحقيقية هي مهنة ساحر، كما كان يردد لأصدقائه دوما، رغم أنه كان يرتبك ارتباكا شديدا وهو يحاول القيام ببعض الحيل، التي اضطر إلى أن يلوذ بها من جراء عزلة الأدب.
غير أن مهنة ساحر الكتابة لم تمنعه من أن يكتب روايات أخرى وأخرى، لكن الناشرين كانوا له بالمرصاد دائما. فقد رد عليه ناشر إسباني مرة بسخرية: لقد قرأت روايتك. وأنصحك ألا تواصل الكتابة، ابحث عن عمل آخر يطعم أولادك!
وكما في مذكراته التي اعترف فيها بكل شيء، من الجوع إلى التشرد إلى الفقر، إلى كتابة الرواية الواقعية السحرية، كان لا يخشى من شيء في الدنيا، فتلك عادات البدايات الصعبة قبل الشهرة، وقبل الاعتراف، وقبل القبول بالكاتب وإبداعه الجميل.