حسام عيتاني
كاتب وصحافي لبناني لديه عدد من المؤلفات؛ منها: «الفتوحات العربية في روايات المغلوبين»، إضافة إلى ترجمات ومساهمات في دوريات عربية مختلفة. انضم إلى كتّاب «الشرق الأوسط» في عام 2018.
TT

كوبا إذ تستعيد تجارب الإنكار

يتكرر بالحرف الواحد توصيف السلطات للمتظاهرين الذين ينزلون إلى الشوارع مطالبين بحد أدنى من الحرية وكفاف الخبز: عملاء مأجورون للخارج يتلقون رواتب من دول معادية بغية تخريب مسيرة الوطن والقيادة. وتدعو السلطات «الشعب» إلى التصدي للمحتجين وإجبارهم على العودة إلى جحورهم.
في الأسبوع الماضي، زيد على لائحة الأنظمة المستخدمة للقاموس هذا الحكومة الكوبية التي فوجئت كما فوجئ العالم باندلاع مظاهرات يطالب المشاركون فيها بتحسين أوضاعهم المعيشية من دون أن يغفلوا عن ربط صعوباتهم الحياتية بفشل الحكم القائم منذ سنة 1959، بحلّ المعضلات الاقتصادية التي لا تغيب إلا لتحضر وبقسوة تفوق سابقاتها. توقُّف السياحة بسبب وباء «كوفيد - 19» سدد ضربة قاضية إلى مساعي الدولة الكوبية في التوفيق بين سلطة الحزب الشيوعي وبين الحاجة إلى موارد بالعملة الصعبة لشراء حاجات البلاد من السلع الأساسية. العقوبات التي أعاد فرضها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب بعد رفعها الجزئي من سلفه باراك أوباما واللقاء التاريخي بين هذا الأخير وبين نظيره الكوبي راؤول كاسترو، فاقمت الضيق الذي لم يفارق المواطنين الكوبيين منذ عقود.
النجاحات التي تحققت في أواخر التسعينات وأوائل الألفية الجديدة في تطويق آثار «المرحلة الخاصة» التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي وتوقف المساعدات التي كان يقدمها لهافانا، تبخّرت بفعل العوامل المذكورة من دون أن ينجح الرئيس ميغيل كانيل في رسم خطة لوقف تداعياتها. ترك الفراغ هذا جموعاً من الكوبيين اليائسين في حالة هشّة أمام منظمات المهاجرين المعادين للنظام الناشطة من أميركا عبر شبكات لنقل المال والمساعدات العينية.
لم يعثر كانيل في جعبته على حجج لمواجهة المظاهرات سوى الدعوة إلى النضال ونزول مؤيدي الحزب الشيوعي إلى الشوارع للتصدي لعملاء الخارج. غنيٌّ عن البيان أن للحالة الكوبية خصوصياتها المتمثلة في احتلال الاستقلال موقعاً مميزاً في القيم الوطنية بعد عقود شكّلت فيها الجزيرة حديقة خلفية للولايات المتحدة التي ورثتها عن إسبانيا بعد حرب سنة 1898 (إضافةً إلى الفلبين) ومارست فيها كل أنواع الاستغلال.
من جهة ثانية، يجوز القول إن لكل الدول التي شهدت تحركات مطالبة بالإصلاح أو بإسقاط أنظمة الحكم فيها في العقود الأخيرة، من جورجيا وأوكرانيا إلى دول الثورات العربية، خصائص كانت تقف دون حصول تغيير جذري، وهو ما أفضى إلى حروب أهلية وانهيار دول وانقسامها مقابل تحقيق انتقال سلمي للسلطة في عدد قليل من البلدان. سمات طائفية وعرقية ودينية وطبقية، تقف في كثير من الأحيان بالمرصاد لكل تغيير مرغوب، والحال في لبنان الذي يتدهور في هاوية لا قعر لها مثال على ذلك.
ومن هذه الخصائص أيضاً أن أنظمة الحكم التي تختبئ وراء الإرث العرقي أو الطائفي وتستغل الفوارق الاجتماعية تتبنى من دون استثناء تقريباً مقولات كأنها تُدرّس في صفوف يشارك فيها زعماء ورؤساء. تتجلى المقولات والمواقف تلك بتحميل خارجٍ ما، غير محدد في أكثر الأحيان، مسؤولية الاضطراب وخروج الناس إلى الشوارع. ثمة من يفرض حصاراً (حقيقيٌّ في كوبا... متخيَّل في لبنان، على سبيل المثال). هناك دول ديدنها الشرّ تريد إسقاط التجربة الفريدة والرائعة لحكم الشعب (كوبا وفنزويلا). الدول الإمبريالية تتربص بالشعب الصامد وتحيك له ما لا يمكن تصوره من مؤامرات (كوريا الشمالية). الغرب يسعى إلى تحطيم حضارتنا وإلحاقنا به مذلولين (روسيا وإيران)...
ولا يهم في سياقنا هنا نقاش هذه المقولات وتبيان واقعيتها أو صدقها. فالتآمر ومحاولات الدول إسقاط أنظمة بعضها يملأ كتب التاريخ وإذا سنحت فرصة لحكومة ما لإسقاط خصومها، فلن تتردد في اقتناصها. المهم، في اعتقادنا، أن التبريرات التي تستعملها الأنظمة التي تواجه مظاهرات شعبية، تنفي عن المتظاهرين كل شرعية وتتجاهل مطالبهم الأبسط لتركز على دعواتهم إلى التغيير الكامل للنظام السياسي بوصفه من المحرمات التي لا يجوز التطرق إليها. بل إنها تنفي وجود أناس، أفراداً أو جماعات، أو طبقات اجتماعية تمتلك رؤى تخالف رؤية النظام من دون أن يكونوا خونة وعملاء ومارقين ومرتزقة. لا تعدد للآراء في دول الاستبداد وتلك التي تسير في ركابها. لا «داخل» معترَف به. لا حقوق لأحد غير تلك التي يمنحها نظام حكم استخرج شرعيته «من فوهة البندقية» أو من تحقق إرادة التاريخ والغيب.
ليس معروفاً كيف سيمضي الحراك الكوبي وإن كان التفاؤل بحصول حوار وإيجاد حلول للوضعين الاقتصادي والسياسي، في غير محله على الأرجح. فتجارب مواجهة الناس بالعنف أقرب إلى منطق دول لا تصور لديها عن كيفية علاج أزماتها سوى بإنكارها وبإخفاء المطالبين بالعدالة والكرامة.