أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

درس لا ينسى!

ربما بسبب حساسية الأمر، فشل المتحاورون، للمرة الأولى، في بناء توافقات تمكنهم من الخروج بموقف موحد من تنامي دور جماعات الإسلام السياسي في الحراك الشعبي، كان ذلك منذ عشر سنوات، وفي مثل هذه الأيام من شهر يوليو (تموز)، في لقاء اعتادت المشاركة فيه مجموعة من السياسيين والمثقفين السوريين المعارضين، وقتها كانت تتكرر وبوتيرة متسارعة علامات انزلاق ثورة السوريين نحو وجه إسلاموي، أوضحها إطلاق شعارات وأسماء على بعض النشاطات الشعبية والمسلحة تحمل دلالات ورموزاً دينية، يعززها تخصيص المساجد كمحطات لانطلاق المظاهرات ودور يتنامى لأئمتها ومشايخها في تعبئة الناس وتوجيههم، وأيضاً تعمد السلطة تفعيل الاستفزازات والإهانات الطائفية ومسارعتها لإطلاق سراح المئات من المتشددين الإسلامويين من سجونها، في رهان على تغلغلهم في صفوف الحراك السلمي وتشويه بنيته ومطالبه.
«من الخطر التسامح مع الشعارات الإسلاموية التي بدأت تطغى في ساحات التظاهر والاحتجاج»، هي عبارة أعلنها بعض المتحاورين بشكل صريح، محذرين من تجاوز شعاري الحرية والكرامة اللذين وسما الحراك الشعبي وأجمعت عليهما مختلف أطياف المجتمع السوري، فذلك يفقد الثورة فئات متعاطفة معها ويسوّغ حياد قطاعات مهمة من الأقليات الدينية والقومية، كما يضفي على مستقبل التغيير في سوريا صورة منفرة لن ترضي المجتمع الدولي، بل تبرر له سلبيته وتردده في وقف العنف وردع النظام.
من منكم لا يحتمي بالدين ويجعله ملاذاً في حال تعرضه لظلم ومحنة يصعب احتمالهما؟! ولم علينا أن ندين استقواء متظاهرين مسالمين بمخزون إيمانهم كي يعينهم على الاستمرار والصمود، في مواجهة استفزازات طائفية ومذهبية بغيضة وقمع مروع لا يعرف حدوداً ولا يترك دوراً لمنطق سليم أو عقل يفكر؟ هي أسئلة بادر آخرون لطرحها في محاولة لخلق حالة من التفهم والتأييد لتنامي المسار الإسلاموي في الحراك الشعبي، مستقوين بمشاهد لعشرات الآلاف من حملة الشعارات الدينية وهم يتصدون ببسالة لرصاص الاستبداد ويواجهون الموت والاعتقال من دون أن يتنازلوا عن المجاهرة بالشعب السوري الواحد.
بينما ذهب آخرون بعيداً في دفاعهم عن تنامي الظواهر الإسلاموية، مستعينين بما يعتبرونه حقيقة تقول إنه لا خوف من الإسلام السياسي في سوريا، إما لأنه برأيهم لا يمتلك أي حظ أو فرصة للاستئثار بالسلطة والحقل العام في مجتمع تعددي كالمجتمع السوري، وإما لأنهم يعتقدون بوجود مسحة من الخصوصية للقوى الإسلاموية السورية، وبشكل خاص لجماعة «الإخوان المسلمين»، التي بدأت تتمايز برأيهم، قبل الثورة عن الصورة النمطية للإسلام السياسي، وترسم لنفسها وجهاً وطنياً وديمقراطياً عريضاً، وقد خلصت بعد مراجعة نـقدية طاولت معظم مستويات نهجها السياسي، أهدافاً وآليات عمل ووسائل، إلى الإقرار بأن الشعب هو مصدر السلطات، وبالاحتكام لصناديق الاقتراع وتداول السلطة والاعتراف بمختلف مكونات المجتمع السوري واحترام حقوقها وحرياتها ومساواتها أمام القانون.
لم ينفع مع هؤلاء المستهينين بخطر الإسلام السياسي، القول إن ما تذهب إليه الثورة السورية في تكريس وجه طائفي هو أفضل خدمة تقدم للنظام القائم الذي لم يوفر جهداً لتحويل الحراك الشعبي من أفقه السياسي إلى بُعد مذهبي مدمر، كما لم ينفع عرض محاولات بعض الفعاليات الإسلاموية إضرام النار في وقود المذهبية والطائفة أملاً في إحداث تصدعات في بنية النظام وتشجيع الانشقاقات في الجيش، أو داخل مؤسسات الدولة، وأيضاً لم ينفع سوْق أمثلة وتجارب مريرة رسخت في وعي الناس ووجدانهم، عن سرعة وسهولة تنكر جماعات الإسلام السياسي، وفي مقدمتهم «الإخوان المسلمون»، للشعارات المدنية والديمقراطية التي رفعوها، وإصرارهم الفظ، ما إن وصل بعضهم إلى السلطة، على الاستئثار بالحكم والعمل على أسلمة الدولة والمجتمع، وحتى لم ينفع معهم التذكير بالطابع البنيوي لـ«الإخوان» المسلمين الذين لا يزالون يحملون اسماً ذا مدلول طائفي وتحكمهم روابط تنظيمية استبدادية تستند إلى قسم الطاعة والولاء، وتميزوا تاريخياً بعصبيتهم الآيديولوجية وبأساليبهم الإقصائية، مما يجعلهم عاجزين عن تمثل قيم الحرية والمواطنة وعن التحرر من فكرة الدولة الإسلامية ومن الأساليب الاستئثارية والتسلطية لفرض معتقداتهم وآرائهم على أنها الحقيقة المطلقة.
افترق المتحاورون كل على موقفه، وجاءت الوقائع لتقول كلمة الفصل وتسطر درساً لا ينسى عن الدور التخريبي الذي لعبه الإسلام السياسي في تشويه ثورة السوريين وتمكين أعدائها منها، ليس فقط بوجهه الإرهابي ممثلاً بـ«داعش» و«النصرة» وغيرهما من الجماعات المسلحة، وإنما الأهم بوجهه المعتدل ممثلاً بـ«الإخوان المسلمين» ومن على صورتهم، وهؤلاء الأخيرون لم يمرروا فقط وبخبث الشعارات ذات الطابع الإسلاموي في المراحل الأولى من تطور الحراك الشعبي، بل سارعوا إلى دعم ما سمي الهيئات الشرعية التي فرضت في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وأهملوا واجبهم في تعرية الخطاب الديني المتطرف، وما ظهر من تفريعات متنوعة للجماعات الإسلاموية الإرهابية، بما هو إحجام عن تمييز أنفسهم كحركة سياسية معتدلة، كما يدعون، من واجبها خلق إجماعات وطنية بين السوريين، وتعزيز الثقة بين مختلف مكوناتهم، فكيف الحال حين فاضت أفعالهم بروح الاستئثار ومبدأ المغالبة مع الأطياف الوطنية والثورية لتوسيع سيطرتهم على هيئات المعارضة السورية، إنْ بفرض تثقيل حصتهم التنظيمية فيها أو بزرع أكبر عدد ممكن من كوادرهم في المواقع القيادية لمختلف الهيئات السياسية والإغاثية، ما حكم بالفشل على عمل تلك الهيئات أو مأسستها، وأعاق دورها في بلورة نهج وطني جامع، زاد الأمر سوءاً مفاخرتهم، وعلى حساب انتمائهم ورابطهم الوطني، بقوة ارتباطهم بمن يسمونهم إخوة المنهج، والدفاع الأعمى عنهم ظالمين كانوا أو مظلومين، كـ«إخوان» مصر وليبيا وحركة «حماس» وغيرهم.
صحيح أن السلطة السورية تتحمل المسؤولية الرئيسية فيما وصلنا إليه من خراب وضحايا واعتقال وتشريد، وصحيح أن المأساة السورية وجهت ضربة قوية للثقة بجماعات الإسلام السياسي والرهان على دورها بالخلاص، لكن الصحيح أيضاً أن هذه الجماعات لا تزال تمتلك من النفوذ والدوافع ما يمكنها من إيقاع أشد الأذى بالسوريين ويزيد أوضاعهم سوءاً على سوء، خاصة أنها تعتاش على مناخ عام حاضن يتميز بتفاقم الصراع المذهبي وبتراجع ملموس للسياسة أمام تقدم العنف العاري والتعبئة الطائفية، وبعجز مزمن لقوى التغيير الوطنية عن كسب ثقة الناس والتقاط زمام المبادرة.