د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

الجوائز الأدبية العربية والجرأة

في السنوات الأخيرة ظهرت مجموعة من الجوائز العربية المرموقة في مجال الأدب والثقافة. وهي جوائز أضفت على الحقل الثقافي العربي حراكاً مهماً متعدد النتائج الإيجابية. فالجائزة تشحذ الهمم وتحرّض على الكتابة والإبداع والنشر والمشاركة. لذلك فإن مجرد وجود هذه الجوائز هو عامل إيجابي وحافز على الإنتاج الإبداعي، وهو ما أظهره الواقع من خلال تنافس دور النشر على نشر الأعمال الجيدة واكتساب دار النشر لقيمة خاصة في صورة فوز أحد الكتب التي نشرتها بجائزة، ناهيك بأنه أصبح وصول رواية ما أو شعر أو نقد أو فكر أو ترجمة إلى القائمة القصيرة سبباً كافياً للتشجيع على القراءة وطباعة العمل طبعات عدة. وكل هذه المعطيات من النقاط التي لا يستهان بها أمام ضعف المطالعة في العالم العربي وتراجع دور النشر التي أصبحت تطبع ألف نسخة من العمل الروائي أو الشعري مثلاً وأحياناً أقل.
طبعاً القيمة المالية المعتبرة للجوائز قد أسهمت في خلق هذا الحراك وفي بروز نجوم وفي معالجة طفيفة لضعف القراءة على الأقل بالنسبة إلى الأعمال الفائزة، التي راجت في وسائل الإعلام لارتباطها بالجوائز محل الترشح أو التي أُعلن عن نيلها الجوائز.
إذن، موضوعياً لا يمكن إلا الثناء على الجوائز الأدبية التي راج صيتها في العالم العربي، وهي جوائز في معظمها تنتمي إلى دول الخليج باعتبار قدرتها على تخصيص ميزانية مهمة وعلى ضمان ديمومة هذه الجوائز واستمرارها. وهكذا أصبحت هذه الجوائز عنصراً بالغ الأثر والدور في دورة إنتاج الرواية العربية مثلاً.
ولكن السؤال الجدير بالتفكير فيه وطرحه هو: إلى أي مدى كشفت هذه الجوائز من خلال طبيعة المضامين والخيارات الجمالية الفائزة عن انفتاح على الرؤى الجمالية الحديثة في عالم الكتابة؟ بمعنى آخر هل أن ذائقة لجان التحكيم في الجوائز الأدبية العربية متقدمة على الإنتاج العربي الأدبي الراهن، أم أن الذائقة والرؤى الجمالية الفنية محافظة وتقليدية؟
نطرح هذين السؤالين لأن الإجابة عنهما تُحدد مدى أهمية الدور التنويري الطلائعي الذي تقوم به هذه الجوائز، وهل أنها جريئة في تتويج العمل الجريء فنياً أم أنها فقط تنتصر للجماليات التقليدية؟
بالنسبة إلى الرواية نلاحظ أن الأعمال المتوجة بشكل عام تتسم بالجرأة الفنية والطرافة والتجريب، بل أحياناً نجد أنفسنا أمام نصّ مفتوح على السرد والتاريخ والشعر والفكر ورغم انفتاحه، فإن لجنة التحكيم تدرجه ضمن شكل فني أدبي بعينه وهو الرواية. ويعد هذا التمشي جوهر فكرة الجرأة التي أشرنا إليها، إذ فيه انخراط غير معلن ينتصر للكاتب الذي يُجدد ويكسر القوالب المألوفة ويذهب بعيداً في الهدم والبناء جمالياً. ونفس الانفتاح نلاحظه في الترجمات وفي الكتب النقدية، حيث إن الأعمال المتوجة تدافع عن تصورات فنية حديثة وما بعد الحداثة. وفي الحقيقة هنا يكمن أهم أدوار الجوائز لأن العمل الإبداعي الجيد هو الذي لا يكرر ما سبقه وينتصر للتجديد ويقدم بصمة فنية مختلفة، لذلك فإن الجوائز هي للتشجيع على التجديد وعلى الذهاب بعيداً وعميقاً في مغامرة الإبداع.
فهل ينطبق هذا الانفتاح الحاصل في مجالات الرواية والنقد والترجمة والفكر على الشعر؟
في الحقيقة هنا مربط الفرس. فالشعر الذي يحظى بالتتويج وبالاختيار هو في غالبيته ذاك الذي ينتمي إلى القصيدة العمودية أو قصيدة التفعيلة لا غير، في حين أن القصيدة النثرية لا تعترف بها هذه الجوائز إلى درجة أن غالبية أعلام قصيدة النثر العربية لا يشاركون في هذه الجوائز لأنهم يعلمون مسبقاً أن لا حظ لهم في الفوز، وأن هناك إقصاء لهذه القصيدة مسكوتاً عنه. بل إن الشعراء الذين تحصلوا على جائزة من هذه الجوائز قد تحصلوا عليها من خارج أهم صفة يحملونها، وهي أنهم شعراء قصيدة النثر، فكانت مشاركتهم في فن الرواية رغم أنهم ليسوا روائيين في المقام الأول. وهو ما يعني أن العرف الجاري في هذه الجوائز هو إقصاء أي عمل شعري ينتمي إلى قصيدة النثر مع العلم أن شروط الترشح لهذه الجوائز لا تكشف عن ذلك.
وهنا أتساءل لماذا الانفتاح والمرونة في جنس الرواية والنقد والفكر والترجمة والتشبث بالخيارات المحافظة كثيراً أو نسبياً في الشعر؟
أعتقد أنه من المهم النقاش حول هذه المسألة التي تتجاهلُ هذه الاعتبارات المهمة؛ فقصيدة النثر التي كتبها بودلير ورامبو وتعد من مظاهر الحداثة في الأدب لا تختلف عن فن الرواية ذات الجذور الغربية. أيضاً قصيدة النثر تعود إلى السبعينات من القرن الماضي وكتبها أعلام الشعر العربي أمثال أنسي الحاج والماغوط وأدونيس ويوسف الخال، وهي قصيدة أضافت الكثير للشعرية العربية. كما أن الكثير من الذين يكتبون الشعر اليوم في العالم العربي إنما هم شعراء قصيدة النثر، والغالبية القصوى من الشاعرات يكتبن قصيدة النثر، ويروجون – شعراء قصيدة النثر وشاعراتها - من خلال هذه القصيدة المتمردة على أوزان الخليل لقيم جديدة ولإنسان أكثر حرية. ونظن أن المعركة الثقافية الحضارية اليوم في مجتمعاتنا العربية تدور حول هذه القيم التي تبشر بها قصيدة النثر وتبدع فيها معنى ومعماراً فنياً.
إن الإقصاء عملياً من الجوائز الذي يُمارس ضد قصيدة النثر من المواقف التي تتطلب جرأة وشجاعة من القائمين على الجوائز لتجاوزها وإعلان الانتصار للإبداع من دون شروط جمالية، ومن حق المبدع أن يثور عليها ويبدع في غيرها. فالنقد اليوم يتناول مفهوم الشعرية لما ينطوي عليه من تنوع وثراء ولا شيء يبرر غلق فهم الشعر على العمودي والتفعيلة فقط.
من هذا المنطلق فإن استسلام شعراء قصيدة النثر لهذا الإقصاء وامتناع المعروفين عن المشاركة لا يخلو من سلبية، بل إن المشاركة هي موقف وثقة وإيمان بالقصيدة التي تم اختيار الإبداع فيها. المشاركة في هذه الجوائز موقف للتاريخ حتى لو كان أمل الفوز بالجائزة صفراً.