مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

المجتمع العميق

انشغل العرب كثيراً بمفهوم الدولة العميقة، وترديد المصطلح كمفهوم تحليلي، ربما دونما إدراك أن المصطلح قادم من تجربة الدولة التركية منذ أواخر أيام الإمبراطورية إلى دولة كمال أتاتورك، التي كان فيها حزبه يمثل دولة داخل الدولة. ثم تطور المفهوم فيما يشبه نظرية المؤامرة عن طبيعة ما يحدث داخل أجهزة الدولة من تفاعلات الأجهزة الأمنية، التي أيضاً كان ينظر إليها على أنها دولة داخل الدولة، ومن هنا بدأ تعميم مفهوم الدولة العميقة الذي نقله الدبلوماسي الكندي بيتر دييل سكوت، الذي أصبح أستاذاً جامعياً فيما بعد، وكتب كتاباً عام 1993 بعنوان «السياسة العميقة ومقتل كيندي» نشرته جامعة كاليفورنيا. ثم بدأ المفهوم يغزو الثقافة الأميركية، وبعدها أسقط المفهوم على العالم الثالث وأصبح مفهوماً تحليلياً، وكأن مجرد ترديد الفكرة في السياق الأميركي يكسبها مشروعية العلم. هنا في هذا المقال أريد أن أطرح مفهوماً مغايراً، وأدعي أنه أكثر عمقاً، وهو مفهوم «المجتمع العميق» أو المجتمعات العميقة.
بالمجتمع العميق أعني المجتمعات ذات التاريخ القديم، التي مع الوقت تنصهر ثقافتها لتكون ما يشبه طبقات الأرض الجيولوجية، بعضها فوق بعض، ولديها إحساس بهويتها وعتبة ما هو مقبول، وما هو غير مقبول أخلاقياً واجتماعياً وسياسياً. إذا أردنا أن نضرب أمثلة ليست بالضرورة حصرية لهذا النوع من المجتمعات تكون أقرب الحالات هي المجتمع المصري أو الهندي أو العراقي، أي مجتمعات الحضارات القديمة، التي تكون الثقافة فيها بمثابة الخلايا الوراثية التي تتوارثها المجتمعات جيلاً تلو آخر، وفي الغالب من دون دراية منها. ومع ذلك ففكرة المجتمع العميق في مثل هذه الحالات المكثفة هي نقطة على خط الطيف (spectrum) لنوعيات مختلفة من المجتمعات منها العميق والأقل عمقاً، ولكن جميعها تختزن في داخلها نقاط الانقلاب أو العتبة التي يثور فيها المجتمع، فحالة حرق جسد محمد البوعزيزي في تونس مثلت رمزية للغضب الجمعي في المجتمع التونسي من ظلم نظام بن علي وكانت بمثابة نقطة الانقلاب (tipping point).
هذا النوع من ردات الفعل لكثير من القضايا التي تتخطى فيها الحكومة عتبة ما هو مقبول اجتماعياً، وهنا تكون نقطة التحول أو الانقلاب.
إذا أخذنا مجتمعاً كالمجتمع المصري كمثال، وهنا أؤكد على كونه مثالاً لتوضيح المفهوم حتى لا ينشغل البعض بالمثال، ويبتعد عن جوهر الفكرة النظرية التي أطرحها هنا، نجد أن ردات الفعل هذه تحدث في حالات تم فيها التجاوز على ما يستطيع المجتمع أن يهضمه من إهانة، وهنا سأضرب ثلاثة أمثلة من التاريخ المصري القريب لتوضيح الفكرة.
المشهد الأول يخص اللحظة الفارقة التي أدت إلى نهاية نظام حكم جماعة «الإخوان» في مصر، وتتمثل في ذلك الخطاب الذي ألقاه الرئيس الراحل محمد مرسي، في الثاني والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) 2012، وأعلن فيه أنه رئيس إمبراطور بصلاحيات فوق دستورية، حيث منح الرئيس لنفسه في ذاك الإعلان صلاحيات لم تؤت لرئيس من قبله. هنا جاءت ردة فعل المجتمع متمثلة في النزول إلى الشوارع وإنهاء حكم «الإخوان» في 30 يونيو (حزيران) 2013، أما المثال الثاني فكان متمثلاً في انتخابات برلمان 2010، حيث قرر أمين تنظيم الحزب الوطني آنذاك، أحمد عز، أن يُخْرِج لسانه للمجتمع ويختار برلماناً مزوراً تزويراً كاملاً متكئاً على سيطرة أجهزة حبيب العادلي الأمنية على كل مفاصل المجتمع، التي تخيلت أن المجتمع قد انبطح تماماً، ولا حول له ولا قوة، ثم نادى مجموعة من الشباب بالخروج إلى الشوارع في 25 يناير (كانون الثاني) 2011؛ دعوة بدأت صغيرة ثم شدت معها كل المجتمع في يوم 28 يناير وما بعده، وأدت إلى إزاحة الرئيس الراحل حسني مبارك عن الحكم. تلك كانت ردة فعل المجتمع العميق على ما قام به نظام مبارك من إهانة له تجاوزت عتبة المقبول.
أما المثال الثالث، فكان في فترة الرئيس الراحل أنور السادات، عندما خطب في مجلس الشعب في سبتمبر (أيلول) 1981، بعد حملة اعتقالات واسعة شملت كل رموز المعارضة حتى طالت بابا الأقباط البابا شنودة، وتحدث في الخطبة عن الشيخ أحمد المحلاوي، الداعية الإسكندراني المولود في كفر الشيخ، وقال عنه «أهو مرمي في السجن زي الكلب». في حملة الاعتقالات هذه، وفي التطاول على الشيخ المحلاوي ببذيء اللفظ، تجاوز السادات الخط الأحمر للمورثات الجينية للثقافة المصرية، عندئذ أخرج له المجتمع المتوسط الحسابي له متمثلاً في شخص خالد الإسلامبولي.
النقطة هنا هي أن للمجتمعات القديمة مورثات جينية (cultural DNA) عندما تتجاوزها السلطة ينقلب عليها المجتمع بردات فعل مختلفة. ثورة في حالة محمد مرسي، وثورة على نظام مبارك، واغتيال السادات. كلها ردود فعل اجتماعية تحدث عندما يتخطى النظام عتبة ما يمكن قبوله من قبل المجتمع.
فكرة المجتمع العميق ليست صماء، فهي تمثل أطياف المجتمعات المختلفة جديدها وقديمها، مجتمعات متعددة الطبقات ومجتمعات قريبة من السطح، وجميعها ترسم خطوطها الواضحة التي تستطيع معها تكوين ردة فعل تمثل روح المجتمع أو المتوسط الحسابي لما يمكن قبوله.
مفهوم الدولة العميقة مبني على نظرية المؤامرة التي ترى أن هناك دولة داخل الدولة وأيادي خفية تحرك الأحداث في الظلام، مفهوم اكتسب شرعيته بالتكرار، خصوصاً بعد وصوله إلى أميركا الشمالية، وليس من خلال بحوث أمبيريقية، أما مفهوم المجتمع العميق فهو مفهوم مبني على فهم للحقائق الاجتماعية وردات فعل المجتمعات على سياسات تتجاوز الخطوط الحمراء يمكن قياسها.
مفهوم المجتمع العميق قد يفيدنا في الدراسات المقارنة بشكل أفضل بكثير من مفهوم الدولة العميقة الوهمي.
هذا المقال هو بداية كشط الطبقة الأولى لمفهوم تحليلي قد يزداد تعميقاً من خلال إسهامات آخرين، ونقدهم لمفهوم المجتمع العميق، ومن هنا يتطور المفهوم بشكل مفيد. وللحديث صلة.