توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

المساواة أولاً... المساواة دائماً

لطالما وجدتُ نفسي حاملاً السلّم بالعرض، كما يقول أشقاؤنا في الشام. ولم أقصد هذا في أي حال. لكن بعض الآراء تورد الإنسان هذا المورد، برضاه أو مجبراً. إنها قضايا صغيرة، تثير نقاشاتٍ عميقةً متشعبة، وقد تعلمتُ الكثيرَ من متابعتها والتأمل في خلفياتها، وأظن أن غيري قد استفاد منها أيضاً.
ومن هذا القبيل نقاشُ العدالة والمساواة، الذي عرضت له في مقال الأسبوع الماضي. فقد اعترض بعضُ القراء، وبينهم أشخاصٌ في مقام أساتذتي، على تأكيدي المكرر على مبدأ المساواة. وهم يرون أن الأصل ليس التسويةَ بين الناس؛ لأن الناس غيرُ متساوين في الأساس. البديلُ بحسب هؤلاء الأعزاء هو مبدأ العدالة، الذي يعني – عندهم - إعطاءَ كل شخص ما يستحقه، ومراعاة الفروق الفردية، حتى لو أدى ذلك إلى تمييزٍ واسع النطاق بين الناس.
إنني مهتمٌ بهذا النقاش لسبب بسيط، وهو أن شريحةً واسعة من القراء، استراحت إلى مقولة إن العدل يقتضي التمييز أحياناً. وهذا مبدأٌ صحيح، لكنه استخدم في المكان الخطأ. بيانُ ذلك أن أصل النقاش يرجع لخلاف حول التكافؤ الطبيعي. فهناك من قال بأن الناسَ يولدون متكافئين في القيمة والقابليات، وإنما يتفاوتون لاحقاً، بحسب البيئة والتربية والاجتهاد الشخصي. وهناك من قال بأن بعض الناس يولدون بدم أنقى من الآخرين، فمكانُهم الاجتماعي، على الدوام، أعلى من غيرهم. وهذا أصلُ المسألة الفقهية المعروفة بتكافؤ النسب، وتفضيل الأبيض على الأسود والرجل على المرأة، وتفضيل العربي والهاشمي على غيرهم... الخ.
أما النقاشُ في معنى العدالة، فقد اتخذ مساراتٍ ثلاثة:
الأول: يقول بأن العدل هو معاملةُ المتساوين بالسوية والتمييز بين المختلفين. مثلاً: المساواةُ بين الرجال الأحرار العاديين كافة. والتمييز بينهم وبين الرجال العلماء، والرجال العبيد، والتمييز بينهم وبين النساء... وهكذا. وهذا الرأي هو السائد في المدارس الدينية، الإسلامية والكاثوليكية.
الثاني: يقول بأن السوق منظمةٌ عادلة للحياة: يولد الناس متساوين، ويجب أن يضمن المجتمعُ حصول الجميع على فرص متساوية (المساواة في البداية). أما ما يحصل لاحقاً، فإن كفاحهم وظروف السوق والحياة هي التي تقرر من يحصل على ماذا. وهذا رأي التيار المعروف بالليبرتاري.
الثالث: يقول بأن المساواة هي التمثيل الأولي للعدالة. فإذا اقتضى الأمرُ تمييزاً، فيجب أن يكون لصالح الأقل حظاً حتى يتساوى مع الآخرين.
إنني لا أخفي ميلي القوي إلى الاتجاه الثالث، وإلى التيار الذي يتبناه، وهو المعروف بالمجتمعية - المساواتية الذي ينسب للفيلسوف المعاصر جون رولز. ومما شدني إليه، انطلاقُه من مبدأ العقد الاجتماعي وإيمانُه بخيرية البشر وقدرتهم على إدراك الحق والخير، إضافة إلى تشديده على مبدأ الحرية، وكونها الأساسَ الأول والركنَ الركين للعدالة الاجتماعية.
إن إحدى السمات المهمة في المساواة – وفق تصوير ايزايا برلين – هي أنها أصل وقاعدة معيارية. لو ساويت بين الناس فلن تحتاج إلى تبرير؛ لأنها هي الأصل. لكن لو أعطيت أحداً أكثر من غيره، فلا بد من تبرير لهذا الاستثناء.
وما دمت قد ذكرت برلين، فلعلي أختم به، فرغم قوله بأن المساواة هي الأصل، فإن طبيعة الحياة تقتضي تطبيق أكثر من مبدأ وقيمة كي تكون أكثر ليناً، أي أن ترجح هذه هنا وترجح تلك في الموضع الآخر. لكن يجب ألا ينتهي هذا أبداً إلى تهميش القواعد الأساسية، فنتحول من المساواة إلى التمييز أو من الحرية إلى الاستبداد.