د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

الشرق الجديد... طموح مشروع وعقبات متوقعة

عبارة الشرق الجديد منسوبة لرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، حين وصف قبل عام بداية التقارب العراقي مع كل من مصر والأردن، معتبراً أن مشروع التعاون الثلاثي اقتصادياً وأمنياً من شأنه أن يضع منطقة المشرق العربي على أعتاب مرحلة جديدة تخفت فيها الصراعات ويستعيد فيها العراق هويته العربية وسيادته التي تواجه تحديات كبرى.
من حق العراق من خلال مسؤوليه ذوي الرؤية الرشيدة، والمدعومين برأي عام واعٍ لتحديات اللحظة الجارية، أن يتطلع لتغيير واقعه المفعم بالأزمات والصعوبات، الناتجة عن السياسات الخاطئة لعقود خمسة مضت، رغم تغير هوية الحكام، ويطمح إلى أن يستعيد دوره ومكانته العربية والإقليمية، وأن يستفيد من ثرواته من النفط والزراعة والصناعة والخدمات وكل ما يمكن إنتاجه وتوظيفه لصالح المواطن العراقي أياً كان انتماؤه الطائفي أو الجغرافي أو المناطقي. حين يتحقق مثل هذا الطموح المشروع يستعيد العراق نفسه وذاته التي سُرقت منه، والتي ما زال هناك من يريد أن تظل تحت وصاية خارجية بمبررات مختلفة.
قد يتساءل المرء وما علاقة مصر بالشرق الجديد على هذا النحو، وما الذي يمكن أن يجنيه الأردن من هكذا مشروع تعاون وتكامل طموح، أمامه الكثير من العمل الشاق، في حين أن لديه أزمات وصعوبات اقتصادية كبيرة بفعل جائحة (كوفيد - 19) وغيرها، وتستحق التركيز وأن تكون على قمة الأولويات؟ الأسئلة مشروعة وإن كانت تُطرح بحاجة للإجابة الموضوعية والتفسير المنهجي فهذا شيء، أما أن تُطرح من قبيل خفض الهمم ودق الأسافين وخلق مبررات للتقاعس، فهذا أمر آخر، ومرفوض قطعاً.
المؤكد أن البلدان الثلاثة لديها دوافع شبه موحدة للانخراط الجاد في هكذا مشروع إقليمي للتعاون والتكامل الاقتصادي. وهي دوافع مرتبطة بالبحث عن حلول لأزمات اقتصادية هيكلية وأخرى مجتمعية، مع اختلاف في الدرجة بين بلد وآخر، ومرتبطة أيضاً بتبادل الخبرات في مجالات أمنية تتعلق بمواجهة التطرف والإرهاب العابر للحدود، والذي تعاني منه دول المنطقة كافة، ولدى البلدان الثلاثة خبرات متنوعة في هذا المضمار، تبادلها من أجل التكامل ورفع المردود سيؤدي حتماً إلى مزيد من السيطرة على هذه الظاهرة الإرهابية ومحاصرتها فكرياً وأمنياً.
الدوافع الاقتصادية ليست بحاجة إلى شرح كبير، فرغم وفرة الموارد العراقية، فإن تراث الفساد بأشكاله المختلفة يحول دون الاستفادة منها كما يفترض المنطق الرشيد، ووفقاً للتقديرات المتداولة فقد خسر العراق أكثر من 500 مليار دولار نتيجة تفشي الفساد وسوء الإدارة والتدخل الإيراني المباشر وغير المباشر. ومن هنا أهمية وضرورة الحملة التي يقوم بها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي على رموز الفساد وامتداداتهم الخارجية. ثمة حملة مشابهة يعيشها الأردن الآن تحت عنوان الإصلاح بكافة درجاته، سياسياً وإدارياً واقتصادياً. مصر بدورها مرت بمرحلة إصلاح هيكلي اقتصادياً وإدارياً وتنموياً منذ عام 2014 حين استرد الشعب دولته وهويته بعد عام القحط الإخواني، حققت من ورائها عوائد كبرى أكدتها تقارير المؤسسات الدولية، وساعدتها على استيعاب تداعيات جائحة (كوفيد - 19) بتكلفة مجتمعية معقولة.
تفاوت درجات الأزمة الاقتصادية يسمح بتبادل الخبرات بما يفيد الطموح الثلاثي، ومما يتم بحثه كيفية استفادة العراق من تجربة مصر العمرانية التي حدثت في السنوات الخمس الماضية، ومن تجربتها في الإصلاح الاقتصادي بالتعاون مع المؤسسات الدولية، وأيضاً كيفية استفادة الأردن والعراق من فائض الإنتاج الكهربائي المتحقق في مصر، وكلاهما بحاجة ماسة إلى الكهرباء، وكيف يتم ربط موانئ البلدان الثلاثة براً وبحراً لتسهيل التبادل التجاري وتنميته، وهو للأسف عند مستويات محدودة، في حدود 600 مليون دولار بين مصر والأردن، و470 مليون دولار بين مصر والعراق. وكلاهما لديهما فرص أكبر للنمو والازدياد. ومن الطموح أيضاً تعاون ثلاثي في مجال الاقتصاد الرقمي وتكنولوجيا الذكاء الصناعي، والاستفادة من خبرات مصر والأردن في هذا المجال، لا سيما أن لديهما بنية أساسية واعدة وخبرات بشرية مرموقة.
لكن التركيز على الاقتصاد والتجارة لا يغفل جوانب أخرى تُعد من صميم التكامل، فمواجهة التطرف واستعادة السيادة كأساس للعلاقات الطبيعية بين الدول ولنهضة العراق كما أكد الرئيس العراقي برهم صالح، ومواجهة التحديات المائية لمصر والعراق والأردن كعنصر رئيسي في مفهوم الأمن القومي العربي والأمن الوطني لكل بلد كما أكد الرئيس السيسي، وتعزيز التبادل التجاري والربط البري كما في رؤية الملك عبد الله الثاني... كلها عناصر عملية تصب في أن هناك طموحات كبرى، تواجه أيضاً صعوبات كبرى. وهنا فعنصر الإرادة الجماعية سيكون أساس الحسم.
من الدوافع أيضاً العمل على استعادة العراق لدوره كمرتكز أساسي للأمن والتوازن الإقليمي، وتصحيح معادلات الجغرافيا السياسية التي اختلت بشدة منذ الحملة العسكرية الأميركية البريطانية في 2003، وما تلاها من استباحة إيران للعراق والتمكن من بعض مفاصل النظام الجديد، إضافة إلى التغلغل في المجتمع العراقي تحت مبررات طائفية وسياسية، وتوظيفه كساحة لتصفية الحسابات مع الولايات المتحدة. والواضح أن كلاً من مصر والأردن يدركان أن استعادة العراق لهكذا دور تكاملي عربياً وإقليمياً ليس مهمة عراقية وحسب، والتي يقوم فيها رئيس الوزراء الكاظمي بدور كبير رغم ما يواجهه من تحديات داخلية وإيرانية وتركية، بل هي أيضاً مهمة عربية، تضطلع بها الدول الرئيسة في المنظومة العربية، وهي رؤية مصرية أردنية تتوافق مع التوجه الاستراتيجي السعودي في الانفتاح على العراق الساعي لمواجهة تحديات التدخل في شؤونه الداخلية، والتي تجسدت في زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي للرياض في مارس (آذار) الماضي، والتي تمخض عنها توقيع خمس اتفاقيات في مجالات مالية وتجارية واقتصادية وثقافية وإعلامية.
توافق استراتيجيات أكثر من بلد عربي يؤمن بمبادئ الدولة الوطنية والمؤسسات الفاعلة وعدم التدخل في شؤون الآخرين وتعزيز المكاسب المشتركة ومواجهة الإرهاب العابر للحدود، يؤكد أن المنطقة العربية على أبواب تغير هكيلي كبير، وفي هذا السياق يبدو مشروع الشرق الجديد، أو التكامل الثلاثي، أياً كان المسمى، خطوة تفتح باب الأمل في إحياء النظام الإقليمي العربي بعد سنوات من الترهل والتراجع والضعف وسطوة التدخلات الخارجية. وجزء من هذا الأمل سيظل مرتبطاً بتحقيق أهداف هذا التكامل خطوة تلو أخرى، يشعر بها المواطن العربي في البلدان الثلاثة وفي غيرها أيضا، ويرى عائداتها المادية والمعنوية ماثلة أمامه، يحافظ عليها ويدفع عنها مبررات الإحباط والإفساد المتعمد، وهي أمور متوقعة من كل كاره لنهضة عربية تتحقق في أي بقعة عربية.
الشرط الثاني لإحياء النظام العربي، وإن يكن في مرحلة تالية ولكن قريبة، وهو أن تنضم إلى هذا الجهد الثلاثي أطراف عربية أخرى ما دامت تؤمن بقيمة الكسب المشترك وأن العروبة الحقة تستحق الجهد والتضحية، ويقيناً هناك أطراف عربية كثيرة تعمل على هذا النحو.