سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

عملاقان يرسمان الثالث

النصف الأول من القرن الماضي حاولت روسيا أن تنحّي جانباً كنوزها الأدبية القديمة من أجل إظهار «الأدب السوفياتي». وقد وجدت ضالتها في ماكسيم غوركي، صديق لينين وستالين، مع أنه لم يكن شيوعياً، (ت. 1936). صار كل من يأتي إلى موسكو من أدباء العالم يطلب اللقاء بمؤلف «الأم».
عثرتُ في السيرة الذاتية لاثنين من عمالقة المرحلة على وصفهما لشخصية غوركي: الشاعر اليوناني نيكوس كازانتزاكيس، والأديب النمساوي ستيفان زفايك. يروي اليوناني أن غوركي خرج إلى لقائه على عتبة السلم «وعقب لفافة يلمع بين شفتيه. كان ضخماً ذا عظام كبيرة وفكّين غائرين وعظام بارزة في الوجنتين، وعينين زرقاوين صغيرتين تتطلعان بقلق وحزن، وفم مشدود بشكل لا يوصف. جلسنا في غرفة مكتب صغيرة مليئة بالناس. وكان غوركي يجيب عن الأسئلة بصوت لطيف عذب من دون أن يتوقف عن إشعال سجائره. وكانت ابتسامته المريرة تعطي حديثه جواً تراجيدياً عميقاً. إنك تحس فيه رجلاً تحمّل الكثير، ولا يزال، رجلاً رأى مشاهد مرعبة بحيث لم يعد يؤثر فيه مجد أو تكريم أو احتفال. أراه مليئاً بالمرارة. إنسان لا عزاء له».
أما الانطباعات التي دوَّنها الأديب النمساوي في كتابه «عالم الأمس» (دار المدى) فهذا بعضها:
«لم تخلُ المناسبة من بعض الغرابة؛ فغوركي لم يكن يعرف أي لغة أجنبية، وأنا لم أكن أعرف الروسية. وبحسب كل قواعد المنطق، تعيّن علينا نتيجة ذلك أن يواجه أحدنا الآخر مواجهة صامتة، أو أن نتحادث من خلال ترجمة صديقتنا ماري، بارونة بودباغ. ولكن لم تكن مجرد مصادفة أن يكون غوركي أحد أبرع الرواة في الأدب العالمي. فالنص لم يكن يعني له شكلاً من أشكال التعبير، بل فيضَ وجوده الفعّال كله. كان مفعماً بالحيوية، وقد توحّد مع مادة قصصه، ومن البداية فهمته من دون أن أفهم لغته، وذلك من خلال حركات وجهه. كان يبدو «روسياً» تماماً، ولا كلمة أخرى تصفه. لا شيء في ملامحه يلفت النظر، فكان باستطاعة المرء أن يتخيّل الرجل الطويل النحيل بشعره الأشقر كالقش، وعظمي وجنتيه العريضتين، أن يتخيله فلاحاً في الحقول، سائق عربة، إسكافياً متواضعاً، متشرداً أشعث. لم يكن أكثر من واحد من «الشعب». النموذج الأصلي للشعب الروسي. وقد تجتازه في الشارع بلا اكتراث، ومن غير أن تلحظ شيئاً غير مألوف. ولكن حين تجلس قبالته، ويبدأ بالكلام، تدرك ما هو، إذ إنه يتحول رغماً عنه إلى الشخصية التي صوّرها.
أذكر كيف وصف رجلاً مسناً متعباً أحدب كان التقاه في أسفاره. استوعبت الوصف قبل أن يترجم. غرق رأسه من تلقاء ذاته بين كتفيه المتهدّلتين، وأصبحت عيناه الزرقاوان، المشرقتان عندما ابتدأ، غائمتين ومتعبتين، وتهدّج صوته، ومن غير أن يدري تحوّل إلى كهل أحدب. ولما روى شيئاً مضحكاً، استغرق في الضحك، وأسند ظهره إلى المقعد متراخياً متوهج الوجه. كانت بهجة لا توصف أن تستمع إليه وهو يعيد وصف الريف والناس على نحو يكاد يكون مجسّماً. كان كل ما يتعلق به بسيطاً وطبيعياً: مشيته، وجلسته، وانتباهه، ومرحه».