حنا صالح
كاتب لبناني
TT

مخطط جهنمي وراء الانهيار والتعطيل والفراغ

تزول الدول، عندما تفرض عليها السياسات المتبعة شيخوخة مبكرة، فتتعثر وتتفسخ، وتُترك المؤسسات للتآكل فالسقوط... لا يكفي للبقاء والاستمرار مجرد إعلان الاستقلال والاتفاق على العلم والنشيد، كما أن السقوط ليس الشرط الحتمي. ما تعرض له لبنان، وهو مستمر منذ سنوات، نموذج يستحق الدراسة لأنه ما من شيء حدث بالصدفة، بل إن كل ما يجري مشغول ومبرمج ومخطط له، من الهدف الأدنى إلى الأبعد.
لولا المخطط الجهنمي كان من المستحيل أن يترك لبنان فريسة الانهيارات المتلاحقة منذ سنوات، ثم يحلُّ التعطيل، فلا تتخذ أي خطوة من شأنها أن تفرمل الكارثة، لتكون النتيجة الحتمية الفراغ. الأكيد أن من خطط لدفع لبنان إلى الحضيض، واستثمر إلى الحد الأقصى في جشع الأطراف السياسية التي فقدت أهليتها الأخلاقية والوطنية، لا يراهن على مجرد الدخول في الفراغ، بل يراهن على ما بعده؛ توظيف الفراغ في خدمة مشروع آخر، وهنا لا بأس من ممارسة كل أشكال التقية وخداع الآخرين وإطلاق الوعود والعهود أمام الداخل والخارج، حتى منح مسهلي المخطط بعض الذرائع بوهم حصولهم على البراءة مما يجري، مع أن لا أحد يجهل أن يدهم اليسرى تعرف ما تقترفه اليد اليمنى!
طيلة 3 عقود ونيّف انتخبت مجالس نيابية وفق قوانين كانت تتيح معرفة أغلب الفائزين قبل يوم الانتخاب. وبلغت الذروة مع المجلس الحالي الذي انتخب وفق قانون متصادم مع الدستور، اعتمد الفرز المذهبي فزوّر إرادة الناخبين، ورغم كل ما يتعرض له البلد ظهر دور البرلمان شكلياً حيال التحديات الحقيقية، وفعالاً لجهة تشريع الفساد في القوانين، التي تعزز تسلط منظومة سياسية استأثرت بالحكم منذ بداية التسعينات، هي مزيج من تحالف بين ميليشيات الحرب والمال، فانتفى التشريع وغابت المحاسبة!
في آخر 16 سنة بعد «انتفاضة الاستقلال» في عام 2005، بات يتكرر وجود رئيس حكومة مكلف بدون حكومة، وبات المعدل الوسطي لتأليف الحكومات ما بين 7 و8 أشهر! وامتد إجمالي تصريف الأعمال نحو خمس سنوات، كان خلالها قرار البلد بين أيدي سلطة خفية – معلومة هاجسها خدمة أولويات فئوية من خارج الدستور والقوانين!
وقبل 28 سنة جيءَ برياض سلامة إلى رئاسة المصرف المركزي وكُلِّف بأمرين؛ حماية سعر الصرف وتأمين عجز الموازنة، وترك له أن يفعل ما يريد. لم تسأله الحكومات عن أي تدبير، ولم يُسأل «أمين بيت المال» لماذا يستثمر أمواله خارج لبنان! ويستمر على رأس هذه الإمبراطورية رغم اتهامه من القضاء السويسري بجرم تبييض الأموال وصدور قرارات حجز مئات الملايين في حساباته! وقد لا يُساءل رغم أن التقرير المالي لبنك عودة كشف الخداع الممارس من سلامة ومعه الطبقة السياسية الذين ادعوا أن الليرة بخير فيما كان صافي الاحتياطات الأجنبية لدى مصرف لبنان يتحول من إيجابي إلى سلبي منذ عام 2014، وتفاقمت بدءاً من عام 2016 مع «الهندسات المالية»، ويعترف متأخراً «بنك عودة» بأن الفجوة المالية في المركزي بين نهاية 2013 وعام 2020 بلغت 56 مليار دولار!
أما أركان الكارتل المصرفي الذين خانوا الأمانة وقامروا بأموال المودعين، وجنوا الأرباح الطائلة فتوسعت ملكياتهم الخاصة، والتقديرات أنهم نقلوا نحو 25 مليار دولار إلى الخارج. تخلى هذا الكارتل في زمن رياض سلامة، وزمن الرقابة على المصارف التابعة للحاكم، عن الصناعة المصرفية وتحول أركانه إلى مرابين فتبخرت الودائع جني أعمار الناس!
تعشش الفساد وبات النهب على الغارب، وما اتهامات المسؤولين لبعضهم البعض إلا التأكيد على عمق شراكة الفساد المتينة. رغم ذلك ما من متهم أمام القضاء، فقد جرى احتجاز العدالة بعد تدجين القضاء واستتباعه. وبمعزل عن وجود قضاة هم مثال النزاهة، فإن العدة القضائية التمهيدية، ممسوكة من جانب جهات أمنية معنية بإجراء التحقيقات الأولية، وعندما أراد مجلس القضاء كسر الشرنقة احتجزت رئاسة الجمهورية التشكيلات القضائية خلافاً للدستور ومندرجاته.
في آخر عشر سنوات بات التهريب مقونناً بقوة الأمر الواقع. كل موارد الدولة أصبحت سائبة. وعندما شاعت عبارة «النأي بالنفس»، زمن حكومة القمصان السود التي ترأسها نجيب ميقاتي، تبين أن الفعل كان النأي عن المسؤولية عن تفاقم الكوارث، التي اتسعت مع حكومات تمام سلام، ولاحقاً سعد الحريري إثر التسوية الرئاسية المشينة، وصولاً إلى الحكومة الواجهة برئاسة حسان دياب. لقد ضغط «حزب الله» الممسك بالقرار اللبناني لانتهاك «قانون قيصر»، إذ بموازاة تهريب السلع المدعومة من جيوب اللبنانيين وحرمان الناس من المحروقات والدواء والرغيف، أُعيد تصدير سلع مستوردة إلى سوريا بموجب أذونات من الجمارك والوزارات، وزوّرت بطاقات المنشأ كما في شحنة سموم «نيترات الرمان»!
في كلّ هذه الجوانب، وما ينجم عنها من تداعٍ لهيكل السلطة وتشظٍ للمؤسسات، يلعب «حزب الله» دور رأس الحربة بوصفه الممسك بقرار البلد.. المرفأ والمطار والحدود المستباحة تحت قبضته، وهو الجهة المسؤولة قبل غيرها عن حماية التهريب لتمويل الدويلة وحروبها، كما تمويل ميليشيات النظام السوري وزيادة أرباح المحتكرين، غير آبه بتداعيات ذلك على البلد ومؤسساته وأهله. وبعد ثورة «17 تشرين» تصدر الصفوف لحماية نظام المحاصصة الطائفي، وأمن الحماية لاستمرار منظومة متسلطة جائرة. لكن أبعد من الاستئثار بالقرار، يحرص «حزب الله» على حراسة التعطيل بانتظار ما ستقرره طهران، في ضوء تطورات مباحثات فيينا، والأرجح أن القرارات ستبقى معلقة، ومآسي اللبنانيين باقية والاستثمار فيها لن يتوقف، ما دام هناك من يجاهر بزمن «إيران الكبرى» الممتدة حتى المتوسط.
غير أن منحى التفاوض قد يتغير بعد إعلان رئيس الوفد الإيراني عباس عرقجي أن «المفاوضات معقدة ووصلنا إلى القضايا الخلافية»، فهل يعني ذلك بدء فتح ملفي الصواريخ والنفوذ الإيراني في الإقليم؟
الأمر الأكيد أن حسم الرئاسة الإيرانية مسبقاً لمصلحة المتشدد إبراهيم رئيسي، بعد شطب ترشيح الأقل ارتباطاً بـ«الحرس الثوري»، أعاد خلط الأوراق. وإذا كان المفاوض الأميركي قد راهن سابقاً على مرشح «إصلاحي» فهذا المرشح لم يعد موجوداً ولم يعد التنازل الأميركي مبرراً. لا بل فإنه من صواريخ «حماس» إلى المتغيرات داخل الحزب الديمقراطي الأميركي، على خلفية الهبة الفلسطينية وما حركته من دعم لحقوق الفلسطينيين، فإن مسار التفاوض قد يشهد الكثير من المتعرجات، التي من شأنها أن تنعكس على لبنان مزيداً من الضغوط تمارسها الدويلة لتأبيد الفراغ كمقدمة للسيطرة، لأن من يستهدف لبنان يريده مجرد جغرافيا مع شعب منهكٍ يائس! ولا رهان أبداً أن الطبقة السياسية التابعة ستتخذ أي خطوة في مواجهة هذه الأخطار.