د. ياسر عبد العزيز
TT

هل تعود مصر إلى المنافسة الإعلامية الإقليمية؟

في ديسمبر (كانون الأول) 2010، نشر موقع التسريبات الشهير «ويكيلكس» عدداً من الوثائق المهمة التي تخص الصراعات السياسية المحتدمة في منطقة الشرق الأوسط آنذاك، وقد جرى هذا النشر بالتزامن مع صحف عالمية مرموقة، لما انطوى عليه من مفاجآت مدهشة.
ومن بين أبرز ما كشف عنه «ويكيلكس» من «أسرار» حينئذ أن دولة عربية ساومت دولتين عربيتين كبيرتين على تحسين العلاقات البينية المتوترة معهما في مقابل «تغيير نمط التغطية الإعلامية لقضاياهما» في مجموعة إعلامية نافذة تمتلكها. بل قامت تلك الدولة أيضاً بـ«مساومة» واشنطن على أن تمنحها مزيداً من الامتيازات الإقليمية في مقابل أن تخفّف الانتقادات التي توجّهها لسياساتها عبر منصتها الإعلامية الشهيرة.
لم يستغرب أحد من تلك التسريبات بطبيعة الحال؛ فقد كان الجميع يعلم أن التغطية الإعلامية للشؤون السياسية الجارية تلعب دوراً جوهرياً في التأثير في الرأي العام العربي وربما في قيادته إلى اتخاذ مواقف معينة، وهي مواقف يمكن أن تتم ترجمتها في سلوك سياسي أو غضب جماهيري أو ضغوط صعبة، وقد تصل إلى مرحلة ممارسة العنف في بعض الأحيان.
تعطينا هذه الواقعة مثلاً واضحاً على التصاعد الكبير لدور المحتوى الإعلامي المقدّم عبر منصات نافذة في التأثير في السياسات العامة، وتوضح إمكانية أن تتحول القدرات الإعلامية العابرة للحدود إلى وسائل ضغط يمكن أن تصمد في مقايضات وأن تعيد رسم حدود التفاوض.
والشاهد أن ثمة توافقاً كبيراً على أن الإعلام يلعب الدور الأكثر أهمية في تشكيل تصورات الجمهور العربي عن الأحداث الحيوية التي تقع في إطار اهتمامه. وقد واكبت التحولات السياسية الحادة التي تشهدها المنطقة العربية منذ عام 2011 زيادة مطّردة في تأثير الرأي العام، وباتت آراء الجمهور ومواقفه، التي يُكوّن معظمها من خلال تعرضه للرسائل الإعلامية، عاملاً مؤثراً في صياغة التطورات السياسية، والضغط على صانعي القرار، أو مساندتهم ودعمهم.
لم تكن تلك نغمة جديدة على مسامع الدولة الوطنية العربية؛ إذ كانت قد أدركت هذا التأثير المتصاعد للإعلام قبل عقود عديدة، ليس فقط في بيئة قرارها الداخلي، ولكن أيضاً على النطاقين الإقليمي والدولي.
اكتشفت مصر هذا الأمر المهم مبكراً جداً؛ إذ لا يمكن أن نتجاهل مدى تأثير إذاعة «صوت العرب» المصرية في السياسات الإقليمية بل المحلية في المنطقة، ولا يمكن أن ننسى أن انطلاق هذه الإذاعة وتطور دورها جرى بموازاة صعود الدور المصري في الإقليم في خمسينات القرن الفائت وستيناته، حيث كانت مرتكزاً حيوياً لذلك الدور، وصوتاً مسموعاً له، وعامل تأثير لا يُشقّ له غبار على مدى نحو عقدين.
لاحقاً، طوّرت مصر القمر الصناعي «نايل سات»، وهكذا فعلت أيضاً السعودية التي طوّرت قمرها «عرب سات»، قبل أن تلحق بهما قطر، لتطلق «سهيل سات». إلى جانب ذلك، استثمرت السعودية في منظومة ضخمة من الشبكات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية والصحف الإقليمية، وهي منظومة تزداد تركيزاً وتأثيراً، وتُلهم صناعة الإعلام في المنطقة، وتقدم أداءً يتوخى المعيار العالمي.
أما قطر، فقد راحت تستثمر بشغف في شبكة «الجزيرة»، وهي الشبكة التي تعملقت وانتشرت، وتنوّعت أذرعها، وباتت لاعباً أساسياً في منظومة التأثير الفعالة في المنطقة.
وفي مطلع العقد الأول من الألفية الحالية، كانت الإمارات تخطو خطواتها الأولى في هذا المجال، حيث أطلقت قناتها الفضائية المؤثرة آنذاك «قناة أبوظبي»، ثم واصلت سياسات تطوير وتنمية للمجال الإعلامي، أطلقت معها فضائية إقليمية عصرية «سكاي نيوز عربية»، وعدداً من المنصات الإلكترونية المهمة، فضلاً عن تركيز أنشطتها في مجال التفكير والتنظير الإعلاميين.
لكن مصر التي اختبرت مزايا التأثير الإعلامي مبكراً، كانت قد تخلت عن دورها القيادي للإعلام الإقليمي على مدى نحو خمسة عقود، وفي غضون ذلك خاضت معارك سياسية خطيرة من دون أدوات إعلامية إقليمية أو دولية، وهو الأمر الذي انعكس سلباً على الصورة الذهنية للدولة والحكومة. ولولا أن الدولة المصرية بعد 30 يونيو (حزيران) 2013 تلقّت مساندة حيوية من تعبيرات إعلامية إقليمية لدول صديقة، سعت لرواية قصتها الحقيقية للعالم، لكانت قدرتها على مجابهة التحديات التي واجهتها أقل.
ولكن قبل يومين، أعلنت أكبر شركة للإنتاج الإعلامي في مصر عن إطلاق فضائية إخبارية إقليمية مصرية بحلول الربع الأول من العام المقبل، وعندما يحدث هذا، وتكون تلك المنصة على القدر المأمول من الفاعلية والمهنية، سيكون الإعلام العربي قد حظي بإضافة مهمة جديدة.