جستن فوكس
TT

«كوفيد 19» قد يعود مجدداً في الخريف

عبر مختلف أرجاء الولايات المتحدة، يحتضن الناس بعضهم بعضاً، ويتحدثون على مقربة من وجوه بعضهم، ويرتادون المكاتب، ويحضرون فعاليات رياضية في الهواء الطلق، ولا يرتدون أقنعة حماية الوجه داخل متاجر «وولمارت».
ورغم ذلك، لا يزال انحسار فيروس «سارس - كوف - 2» المسبب لـ«كوفيد - 19» مستمراً، مع تراجع أعداد الإصابات المؤكدة بأكثر من 50 في المائة خلال الشهر الماضي.
ونسب الجزء الأكبر من الفضل وراء هذا التحول الرائع في مسار الأحداث - عن حق - إلى اللقاحات، مع حصول أكثر عن 60 في المائة من الأميركيين البالغين الآن على جرعة واحدة على الأقل من اللقاح. جدير بالذكر أن 94 في المائة من جرعات اللقاح الموزعة داخل الولايات المتحدة تنتمي إلى لقاحي «بيونتيك - فايزر» و«موديرنا» اللذين أثبتا فاعلية فاقت النتائج المذهلة للتجارب السريرية التي أجريت عليهما الخريف الماضي.
ومع ذلك، يبقى هناك عامل آخر خلف تراجع أعداد الإصابات لا يحظى حتى الآن بالاهتمام الواجب. ويدور هذا العامل حول حقيقة أننا اليوم في أواخر الربيع في النصف الشمالي من الكرة الأرضية؛ حيث تسطع الشمس وترتفع درجات الحرارة حتى في أجزاء البلاد التي يميل الربيع للقدوم إليها متأخراً.
ومثلما الحال مع الإنفلونزا وفيروسات «كورونا» المسببة للبرد العادي، يبدو أن هناك عنصراً موسمياً وراء انتشار فيروس «سارس - كوف - 2». ويعني ذلك أنه مع قصر النهار وانخفاض درجات الحرارة في غضون أشهر قليلة، ثمة احتمال كبير لأن تعاود أعداد الإصابات في الارتفاع من جديد.
ولا أتوقع هنا تكرار سيناريو ما حدث الشتاء الماضي، ذلك أنه بفضل هذه اللقاحات وكذلك النسبة الكبيرة من البالغين الأميركيين الذين تلقوا اللقاح، فإن أجهزة المناعة ستكون مسلحة، ولو بصورة جزئية على الأقل، في مواجهة أي مستجد الفترة المقبلة. والمفترض أنَّ القول ذاته ينطبق على المناطق المعتدلة، مثل أوروبا.
ومع ذلك، يساورني القلق من أنَّه مع امتناعهم عن الحديث بدرجة أكبر حول الجانب الموسمي للمرض، يخاطر مسؤولو الصحة العامة بذلك بالسقوط في موقف نجد فيه عودة الطلاب للمدارس مع نهاية الصيف وبداية الخريف، وإعادة فتح المكاتب وأماكن الترفيه يتبعها ارتفاع في أعداد الإصابات، على نحو يجعل الأمر يبدو وكأنه خرج عن نطاق السيطرة من جديد.
أما الأفضل من ذلك بكثير فهو إصدار إشارات منذ الآن، حول أننا ربما نضطر إلى التراجع والتمترس إلى حد ما في الخريف المقبل.
والسؤال هنا؛ لماذا لا يتحدث الخبراء والمسؤولون بدرجة أكبر عن الجانب الموسمي من «كوفيد 19»؟ من جانبي، لدي نظريتان بهذا الشأن، تشير الأولى إلى أنه في ظل وجود جوانب كثيرة للغاية لجهود الاستجابة الأميركية لفيروس «كوفيد - 19»، فإن الحديث عن هذا الجانب ربما يبدو كرد فعل مبالغ فيه لأمر غبي تفوه به دونالد ترمب عندما قال: «كما تعلمون، يعتقد كثيرون أنه سيتلاشى في أبريل (نيسان) مع ارتفاع الحرارة». أما النظرية الثانية فهي أن الخبراء لا يحبون الحديث عن الجانب الموسمي لـ«كوفيد - 19» لأنه ليس باستطاعتهم طرح تفسير له.
جاء التصريح سالف الذكر لترمب في 10 فبراير (شباط) من العام الماضي، ليمثل الحلقة الأولى من سلسلة طويلة من التأكيدات الرئاسية حول أن «كوفيد - 19» على وشك الاختفاء، الأمر الذي دفع بدوره الخبراء بمجال الأمراض المعدية إلى الإعلان مراراً أن هذا غير صحيح.
وبالتأكيد كان هؤلاء الخبراء على صواب بشكل عام، لكن الملاحظ أن الجائحة انحسرت بالفعل خلال أبريل داخل مدينة نيويورك وعدد من الأماكن الأخرى الأشد تضرراً، وظلت على هذه الحال أغلب الوقت حتى أكتوبر (تشرين الأول)، رغم أنه كان من المستحيل تحديد النسبة التي أسهم بها الطابع الموسمي للوباء في هذا الانحسار، وكذلك حجم تأثير التغييرات التي طرأت على السلوك واكتساب المناعة.
والملاحظ أن موجة فيروس «كورونا» خلال الصيف داخل الولايات المتحدة تركزت في مناطق حيث؛ «1» لم يصب كثيرون خلال الربيع، و«2» كان قيظ الصيف شديداً لدرجة دفعت الناس لقضاء وقت أطول في أماكن مغلقة عما كان عليه الحال في الربيع، أو الشتاء.
جدير بالذكر هنا أن بمقدور مرض شديد العدوى يملك قليلون مناعة ضده الانتشار حتى عندما تكون الظروف الموسمية غير مواتية لها. على سبيل المثال، نجد وباء الإنفلونزا «إتش 1 إن 1» في صيف 2019. ذلك أن معدلات الإصابة بها تراجعت في يوليو (تموز) ومطلع أغسطس (آب) داخل الولايات المتحدة، لكنها ظلت أعلى بكثير عن المستويات العادية لنشاط الإنفلونزا خلال الصيف. ويبدو أن «سارس - كوف - 2» امتلك قدرة أكبر بكثير على العدوى عن «إتش 1 إن 1» حتى قبل ظهور كثير من التحورات التي زادت إمكانية انتقالها بين الأفراد.
أما عن مسألة قضاء الأفراد وقتاً أطول داخل أماكن مغلقة، فإنه يجري النظر إليها باعتبارها سبباً كبيراً وراء انتشار أنماط البرد والإنفلونزا أسرع خلال الشتاء. وتوفر المكاتب والمطاعم وأماكن الترفيه المزدحمة سيئة التهوية بيئة تساعد على تفشي العدوى أمام الفيروسات، وكذلك الحال مع المدارس، وإن كان الأطفال الصغار يضطلعون على ما يبدو بدور أقل في انتشار «كوفيد 19» عن البرد والإنفلونزا.
ويعتبر قضاء وقت أطول داخل أماكن مغلقة التفسير الكبير الأول وراء موسمية الفيروسات المرتبطة بالجهاز التنفسي. أما التفسير الثاني فيتعلق بالرطوبة، ذلك أنه مع انخفاض معدل الرطوبة يصبح باستطاعة الجسيمات الفيروسية البقاء على قيد الحياة والاستمرار معلقة في الجو لفترة أطول. ويرتبط التفسير الثالث بأجهزة المناعة لدى الأفراد، التي تصبح أضعف في الشتاء بسبب تضاؤل كمية فيتامين «د» التي يحصل عليها الجسم من أشعة الشمس.
تجدر الإشارة هنا إلى أن نموذج التنبؤ بمعدلات «كوفيد - 19» الشهير الذي وضعه معهد القياسات الصحية والتطعيم التابع لجامعة واشنطن، يدمج عامل الموسمية في تقديراته. يذكر أن هذا النموذج تعرض لكثير من الانتقادات المستحقة لأساليبه والأخطاء التي وقع فيها في وقت مبكر من الجائحة، لكنه أثبت منذ سبتمبر (أيلول) أنه مرشد جدير بالاعتماد عليه في تتبع مسار الجائحة على المدى المتوسط داخل الولايات المتحدة. ويتوقع النموذج تراجع معدلات الإصابات اليومية داخل الولايات المتحدة حتى منتصف يوليو، يعقب ذلك ارتفاع مضاعف في أعداد الإصابات حتى الأول من سبتمبر، نهاية الفترة التي تغطيها التوقعات الحالية.
خلاصة القول إنَّ الجائحة تبدو في طريقها للنهاية داخل الولايات المتحدة، وهو أمر رائع، لكن ينبغي لنا الانتباه إلى أن الفترات التي تعقب موجات تفشي الأوبئة مباشرة من الممكن أن تحمل خطورة كبيرة. على سبيل المثال، كانت المواسم الأشد فتكاً للإنفلونزا داخل الولايات المتحدة منذ عام 1918 – 1919، هي موسما 1919 - 1920 و1920 - 1921.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»