جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

غلطة الشاطر بألف

في رواية الكاتبة إيزابيل الليندي المعنونة» إيفا لونا –Eva Luna» تقول أم، وهي طريحة على فراش الموت، لطفلتها «إيفا» الواقفة إلى جانبها: «يا ابنتي لا يوجد موت. الناس يموتون فقط حين لم نعد نذكرهم».
على افتراض اتفاقنا نظرياً مع القائل أعلاه، فهذا يعني ضمنياً، أن أميرة إمارة ويلز الراحلة ديانا لم تمت، لأن أغلب الناس، ليس في بريطانيا فقط، بل في بلدان أخرى عديدة، لم ينسوها، وما زالوا يذكرونها، ويتعاطفون معها، ويتابعون باهتمام تفاصيل ما يستجد من تفاصيل تظهر من حين لآخر، في قضية طلاقها من ولي العهد البريطاني الأمير تشارلز، أو موتها المأساوي، في حادثة سيارة بباريس 1997، ومؤخراً، برزت إلى السطح تفاصيل جديدة، في حادثة أخرى، ذات صلة بمقابلة تلفازية أجريت معها عام 1995، وبثت على شاشة قناة محطة بي بي سي 1، وأجراها معها، صحافي صغير في العمر والمكانة، لم يكن معروفاً، آنذاك، اسمه مارتن بشير. وتبيّن من خلال تحقيق مستقل في الواقعة، قام به قاض سابق، أن الصحافي المذكور لجأ إلى استخدام أسلوب الخداع، لإقناع الأميرة الراحلة بأهمية إجراء المقابلة التلفازية معه، عبر تزوير وثائق ومستندات مصرفية تثبت تسلم بعض من يحيطون بها في القصر لمبالغ مالية، من جهات أمنية وإعلامية، بغرض التجسس عليها. الخدعة انطلت على الأميرة وشقيقها الأصغر، وحظيت الـ«بي بي سي» بشرف إجراء وبث المقابلة، والتي أدت، كنتيجة، إلى قطع ما تبقى عالقاً، كخيوط عنكبوت، في علاقتها الزوجية بالأمير تشارلز.
لنترك قضية الأميرة ديانا جانباً، على اعتبار أنها، بحسن نيّة، وقعت في فخ الخديعة، ولنركز على الصحافي المخادع، والمؤسسة العتيدة، التي ينتمي إليها، ودعمته طوال السنوات الماضية، بإصدارها عدة بيانات، تؤكد نفي اقترافه لما يخالف بنود وثيقة شرف المهنة الإعلامية.
ما فعلته مؤسسة هيئة الإذاعة البريطانية في العملية، وكشف عنه التحقيق، يعدّ سابقة خطيرة، ليس فقط لأنها تشكل خرقاً فاضحاً لأصول العمل الإعلامي وأخلاقياته، بل لأن الفعل صادر عن مؤسسة إعلامية مخضرمة، وبجذور عميقة، أكسبتها، عبر الزمن، شهرة عالمية، وحظيت برامجها وتحقيقاتها الإخبارية بمصداقية لا تقارن. لذلك، فإن مساهمتها في عملية الخداع، بشكل مباشر أو غير مباشر، والمشاركة في حماية مرتكبها، والتخلص مما تركه وراءه من أثر، لا يختلف عن خيانة «أمين سوق» لواجبه، وللثقة الممنوحة إليه من قبل زملائه في المهنة، ومن قبل المستهلكين. ولتوضيح الأمر، فإن مصطلح «أمين سوق» من المصطلحات القديمة زمنياً، وما زال، إلى يومنا هذا، يستخدم في الأسواق الليبية، خصوصاً أسواق الذهب والفضة ومصنوعاتهما، والحرير ومنسوجاته،. ومن يتم اختياره لشغل المنصب، يكون في العادة، شخصاً معروفاً، مشهوداً له بالكفاءة وبالخبرة وبالأمانة وتحظى أحكامه بالمصداقية وتعدّ قاطعة. ومهمته التأكيد من جودة السلعة، ومطابقتها للمواصفات، وكشف المزيف منها أو المغشوش، ومعاقبة المخالفين للنظم واللوائح المتفق عليها، بحرمانهم من مزاولة المهنة. ومنصب «أمين السوق»، ليس حكراً على الأسواق الليبية، بل ينتشر في أغلب، إن لم يكن في كل، الأسواق العربية ذات الصلة.
حسن السمعة والمصداقية تحديداً، على المستويين المحلي والدولي، لم يكونا منحة مجانية من أحد، بل جاءا نتيجة عقود طويلة من العمل المضني. وهما من ساعد هيئة الإذاعة البريطانية على ترسيخ جذورها، وزيادة انتشارها، والأهم صمودها في وجه كل الضغوطات السياسية التي مورست ضدها وما زالت، منذ سنوات وإلى الوقت الحالي، خصوصاً من قبل دوائر اليمين المتشدد في حزب المحافظين، واتهامهم إياها باليسارية، وبعدم التزامها الحياد فيما تقدمه من تقارير وبرامج. وهاهي، نتيجة لخطأ جسيم في الحسابات، وبهدف كسب سبق إعلامي حصري، يرفع من نسبة متابعيها، ويتعالى بها على منافسيها من القنوات الأخرى، وقعت في المطب نفسه – مع الفارق - الذي وقع فيه الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، بمنحه السيف لأعدائه ليوجهوا له ضربة قاصمة ونهائية، عقب انكشاف دوره في فضيحة «ووتر غيت» سيئة الصيت. الآن، وحتى بعد تقديمها اعتذاراً رسمياً وعلنياً إلى نجلي الأميرة ديانا، وإلى العائلة المالكة، إلا أنَّ الصدع في الجدار من الكبر والخطورة بشكل لا يجعل من السهل ترميمه سطحياً باعتذار مكتوب من عدة أسطر، أو حجبه عن الأنظار بتعهد من قبل كبار مسؤوليها بعدم تكرار الخطأ، والعمل على مراجعة النهج التحريري لمختلف البرامج الإخبارية. وليس عليها، الآن، وبعد اعترافها بالذنب، سوى تحمل عواقب ما ارتكبت من خطأ جسيم، وتلقي ما يوجه نحوها من سهام نقد من قبل خصوم كثيرين، ظلوا سنوات عديدة يتعقبونها، على أمل الإيقاع بها، من دون أن يطالهم تعب، حتى واتتهم الفرصة، هذه المرّة، وتمكنوا من الإمساك بطريدتهم متلبسة بجرم، ليس بمستطاعها أو بمستطاع أصدقائها الدفاع عنها. وكان على المسؤولين في مؤسسة إعلامية عتيدة مثل «بي بي سي» ألا ينسوا حقيقة واضحة ومجربة تؤكد أن غلطة الشاطر بألف.