كلارا فيريرا ماركيز
TT

بيلاروسيا تتحدى الغرب

حتى قياساً بمعايير زعيم بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو، يعتبر الإقدام فعلياً على اختطاف طائرة في طريقها بين عاصمتين داخل الاتحاد الأوروبي من أجل إلقاء القبض على صحافي معارض، عمل يتسم بتهور جامح.
وحتى هذه اللحظة، لا يزال الغموض يكتنف الكثير من التفاصيل، منها الدور - إذا ما وجد - الذي لعبته روسيا. ورغم ذلك، فإنه من بين النتائج التي تبدو واضحة بالفعل أن إلقاء القبض على منشق أثناء وجوده على متن طائرة بالجو، على نحو يخرق قواعد النقل الجوي الدولية، أمر بإمكانه خلق سابقة أمام الدول الاستبدادية الأكبر، بما في ذلك الصين؛ ولذلك فإن التعبير عن القلق من جانب أوروبا ودول غربية أخرى لا يكفي.
جدير بالذكر هنا أن لوكاشينكو يقاتل من أجل بقاء نظامه الذي يسير على النهج السوفياتي على قيد الحياة منذ أغسطس (آب) الماضي، عندما أثارت ادعاءات غير منطقية بتحقيقه فوزاً انتخابياً كاسحاً آخر - السادس له - موجة مظاهرات عارمة في الشوارع. وقوبلت المظاهرات والإضرابات بحملة إجراءات قاسية وعنيفة وعمليات إلقاء قبض. ورغم ذلك، نجح لوكاشينكو، الذي عمل من قبل رئيساً لوحدة من المزارع الجماعية، في التشبث بالسلطة، لأسباب منها الدعم الذي قدمته موسكو. وحتى اليوم، لا يزال يعمل على إسكات معارضيه وتشديد قبضته على السلطة.
الأسبوع الماضي، توقف موقع إخباري جديد حظي بشعبية واسعة في بيلاروسيا، «توت. باي»، عن العمل. وفتحت السلطات تحقيقاً جنائياً بشأنه، متهمة إياه بالتهرب الضريبي.
ورغم كل ما سبق، تظل مسألة إجبار طائرة تتبع شركة «ريان إر» كانت في رحلة بين دولتين عضوين في حلف «الناتو» (اليونان وليتوانيا) بهدف القبض على منشق، بمثابة تصعيد دراماتيكي. ولو كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يختبر صبر نظيره الأميركي جو بايدن من خلال حشوده العسكرية على الحدود مع أوكرانيا في أبريل (نيسان)، فإن بيلاروسيا قد تمادت لما هو أبعد من ذلك بكثير.
من جهتها، طالبت دول أوروبية والولايات المتحدة بتفسيرات للهبوط الإجباري للطائرة، الأحد، إلا أنه من غير المحتمل أن تحصل على هذه التفسيرات؛ لذلك يجب أن تستغل بروكسل اجتماع قمة قيادات الاتحاد الأوروبي، هذا الأسبوع، لتقديم رد سريع وقوي على مثل هذا التحدي السافر.
اليوم، تحول لوكاشينكو من كونه خطراً على شعبه إلى مصدر تهديد دولي، حسبما قال نايجل غولد ديفيز، من المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، والسفير البريطاني السابق لدى بيلاروسيا. ومن شأن هذا الأمر تقويض أي حجج باقية تدعي أن اعتدال الدبلوماسية الغربية في التعامل مع مينسك من شأنه حث لوكاشينكو على اتباع سياسات بناءة بدرجة أكبر.
وبدت الحادثة الأخيرة برمتها متعذرة على التصديق كما لو كانت أحد أفلام هوليوود. كانت طائرة تتبع شركة «ريان إر» تطير بين أثينا وفيلنيوس، وعلى متنها 170 راكباً، قد أجبرت على تحويل مسارها قبل دقائق من خروجها من المجال الجوي لبيلاروسيا. ظاهرياً، كان السبب احتمال وجود متفجرات على متن الطائرة. وبدلاً من المضي قدماً إلى وجهتها، والتي كانت أقرب إليها، جرت مرافقتها إلى مينسك من قبل طائرة عسكرية نفاثة مزودة بصواريخ جو - جو.
على الأرض، ألقت السلطات القبض على صحافي بارز كان على متن الطائرة، رومان بروتاسيفيتش، رئيس التحرير المنفي لقناة «نيكستا» الإخبارية عبر تطبيق «تيليغرام»، والتي تعد أحد المصادر المحورية للأخبار المستقلة عن بيلاروسيا.
ورغم كل مشاهد تفتيش الأمتعة والاستعانة بالكلاب البوليسية، جاء إلقاء القبض الفوري على الصحافي البالغ 26 عاماً ونقله بعيداً عن الطائرة ليؤكد الهدف الرئيسي لمينسك. جدير بالذكر أن الصحافي بروتاسيفيتش يواجه تهماً جنائية قد تصل عقوبتها إلى الإعدام، تبعاً لما أعلنته سفياتلانا تسيخانوسكايا، زعيمة المعارضة في بيلاروسيا.
المشجع في الأمر أن الاستجابة اللفظية الأوروبية للحادث تجاوزت بكثير مستوى التنديدات المعتادة من جانب التكتل الأوروبي. من جانبها، قالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا غيرترود فون دير لاين، إن هذا السلوك «الشائن وغير القانوني» ستكون له «عواقب».
والآن، ماذا يمكن أن تكون هذه العواقب؟ بالنظر إلى التحديات الداخلية المتمثلة في دفع الدول الأعضاء الـ27 بالاتحاد الأوروبي للاتفاق على عقوبات، فإن توسيع نطاق القيود المفروضة حالياً ضد بيلاروسيا من المحتمل ألا يحدث سريعاً.
من جانبها، طرحت ماريا روهافا، الخبيرة في شؤون بيلاروسيا بجامعة أوسلو، مقترحاً ذكياً يتمثل في ربط إجراء عقابي محدد بهذه الحادثة، والمطالبة بتحرك فوري في الاتجاه المعاكس.
من بين الأفكار المطروحة إعلان المجال الجوي لبيلاروسيا منطقة غير آمنة، وفرض الغرب قيوداً على شركة الخطوط الجوية الوطنية «بيلافيا» حتى يقدم لوكاشينكو بعض الإجابات بخصوص الحادث وإطلاق سراح بروتاسيفيتش وصديقته.
علاوة على ذلك، ثمة مساحة واسعة تسمح بالتحرك لما وراء ذلك أيضاً. يذكر أن العقوبات الأوروبية القائمة تتضمن فرض حظر على مبيعات الأسلحة لبيلاروسيا، وحظر إصدار تأشيرات وتجميد أصول أشخاص ومؤسسات متورطين في انتهاكات، ولا يبدو ذلك كافياً. ومن الممكن أن تتضمن خطوات تالية توسيع دائرة الأفراد الخاضعين للعقوبات وإضافة مؤسسات أخرى تابعة للدولة مثل «بيلاروسكالي» - واحدة من أكبر جهات إنتاج أسمدة البوتاس في العالم -ـ والتي تسهم بنصيب كبير في الدخل الوطني.
إلا أن أياً من الخطوات السابقة تخلو من تعقيدات. فعلى سبيل المثال، تبقى هناك المسألة الشائكة المتمثلة في فصل بيلاروسيا عن العقوبات المفروضة ضد روسيا، والتي من دون دعمها لم تكن مينسك لتتمكن من الإقدام على مثل تلك الأفعال الشائنة. في الواقع، من الممكن أن يؤدي تشديد العقوبات إلى الإسراع من وتيرة سيطرة موسكو على بيلاروسيا خلسة، وإن كان من غير المحتمل أن توافق مينسك على هذا الأمر؛ لذا فإن الخوف من الوصول لهذه النتيجة ينبغي ألا يقف عقبة أمام بروكسل أو واشنطن. وسيكون من المفيد بالتأكيد دعم وسائل الإعلام وعناصر المجتمع المدني المستقلة داخل بيلاروسيا.
*بالاتفاق مع «بلومبرغ»