إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

حرب الكباب في باريس

والكباب هو التسمية غير الدقيقة لتلك الوجبة التي تقدمها مطاعم الوجبات السريعة لزبائنها. فهو في الحقيقة شاورما مؤلفة من شرائح اللحم المكدسة تباعاً في سيخ يدور أمام نار كهربائية. لكن أصحاب تلك المطاعم، وأغلبهم من كرد تركيا، قالوا إنه كباب فصار كباباً.
تأتي نسبة كبيرة من أسياخ الكباب مجمدة بالشاحنات من ألمانيا، بلد المهاجرين الأتراك. ويقبل العمال والطلاب العرب على تلك الوجبة لأن أصحابها يرفعون لافتة «حلال». فلماذا يقف الفرنسيون صفوفاً أمام مطاعمها؟ لأنها تتمتع بالأوصاف ذاتها التي تطلق على خبز باب الأغا، مضرب المثل في العراق: حار ومقصّب ورخيص. يجد المواطن محدود الدخل، والعامل باليومية، والطالب الجائع بين محاضرتين، في سندويتش الكباب ضالته: خبز طري ولحم كثير وصلصة متنوعة مع بطاطا مقلية ساخنة. قنبلة موقوتة كفيلة بملء المعدة لعدة ساعات. إن جماهير الكباب ليست من النوع الذي يزمّ أرنبة أنفه ويسأل عن نوعية اللحم المستخدم فيه. فهو قد لا يكون عائداً إلى أي من المواشي. لكنه لذيذ. نقطة على السطر.
يزعم أكثر من مطعم بأنه «ملك الكباب في باريس». وهو تتويج لا يمكن التحقق منه لأن المبايعة ليست علنية، بل تتولاها شركات دعاية مدفوعة الأجر. وهناك مواقع على الشبكة الإلكترونية تتولى متابعة تلك المطاعم والمقارنة بينها وإصدار قائمة بأفضلها. يذهب المندوب إلى صاحب المطعم لتذوق وجبته والحكم عليها. ويقوم الكبابجي بالواجب و«يدهن زردوم» المندوب، كما نقول بلهجتنا، وتتم الصفقة. إنَّ المهنة مربحة جداً. ومن مطعم صغير في حي شعبي تُجنى ثروات.
انتشرت مطاعم الكباب في باريس مثل الفطر. لم يعد يخلو منها حيّ. بلغت في آخر إحصائية 500 مطعم. غلبت المطاعم اللبنانية في العدد وتكاد تتجاوز المطاعم الصينية. ومع المنافسة تولد المشكلات. فكم من ركن صغير فاق في نجاحه مطعماً ممتداً. إنه الرزق الذي لا يد للمرزوق فيه. لكن أن تصل حرب الكباب إلى المحاكم وتشغل الصحف فهذا هو حديث أصحاب الكار. وبدل التفاهم بالساطور قرر المتخاصمون الاحتكام لقاضٍ فرنسي يدرس الشكوى قانونياً ويأتي لكل طرف بحقه.
هذا ما فعله صاحب مطعم اشتهر بأنَّه يقدّم أفضل كباب في باريس. كان يشتغل معه على مدى سنوات اثنان من أبناء أشقائه. لكنهما تفاوضا مع صاحب دكان مجاور واشتريا المكان وافتتحا فيه مطعماً مماثلاً. كباب لصق كباب. جاءت واجهة المطعم الجديد لامعة وجدرانه نظيفة ولافتته مضاءة بشكل حديث، يقف فيه شابان يفهمان لغة العصر ويروّجان للمكان عبر «النت». من يلوم الزبائن إذا هجروا المطعم الأصلي وتحولوا إلى الفرع؟
فصل العمُّ ولدي شقيقه من العمل ورفض التفاهم. ترك الأمر للقضاء. وكانت العادة أن يطلق أصحاب المطاعم الشائعات التي تصيب سمعة منافسيهم. يقولون إنَّ المكان الفلاني قذر، أو إنه يستخدم لحوم الكلاب، أو إنَّ البلدية داهمته بسبب مخالفته للشروط. لكن الجديد هو وقوف ثلاثة أشخاص من عائلة واحدة أمام القضاء هما العم وولدا أخيه. الشابان يؤكدان أن العمل قام على أكتافهما وقد كانت نيتهما توسيع المطعم، لا غير. والعم يرى أنهما «خاناه» ولم يخبراه بشيء بل فوجئ بالمطعم الجديد. وهناك نقطة أخرى جوهرية: يقول إنهما سرقا سرَّ الخلطة السحرية التي اخترعها. خلاصة بهارات وأشياء أخرى ينقع فيها اللحم ليكتسب ذلك المذاق المميز.
حكم القضاء لصالح العم، في الجولة الأولى. صدرت غرامة بحق الشابين. لكن درب العدالة طويل. وهما قد استأنفا الحكم وواصلا العمل ليل نهار. وسيبقى شيش الكباب يتقلَّب، سنوات، أمام نار الخصومة وقد يحترق الطرفان.