د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

دبلوماسية اختيار الألفاظ

لطالما أعجبت بمهارة الدبلوماسيين في حسن اختيار ألفاظهم. عندما يظهر ألمعهم في الشرق أو الغرب، بمؤتمر صحافي، لا أكاد أفارق الشاشة. فهم يدهشوننا بمفردات ذكية وعميقة تخلصهم من ورطة السؤال المحرج، الذي نحبه إعلاميين. وكم من دبلوماسي خرج «مثل الشعرة من العجين» بردّ بليغ اتسم بسرعة بديهة مذهلة. ولذلك حينما ظهر وزير الخارجية اللبناني، ببلد الذوق والأدب، في قناة الحرة، فقد صدمني ردّه العنيف على محلل سياسي سعودي، عندما قال له غاضباً وهو يهم بالخروج من الأستوديو: «أنا بلبنان ويهينني واحد من أهل البدو» ثم رمى الميكروفون. فتقدمت المملكة ومجلس التعاون لدول الخليج بطلب اعتذار رسمي لدول الخليج.
ربما يسمع الناس إهانات على مدار الساعة، غير أنك حينما تسمعها من دبلوماسي رفيع، فهنا الأمر يتحول إلى صدمة. ذلك أننا عهدنا من الدبلوماسيين حسن انتقاء عباراتهم. فهم يعرفون كيف يخرجون من مآزقهم. وتعجبني كلماتهم التي يرددونها في هذا الإطار، مثل: «لكل حادث حديث»، أو «لا أجيب عن أسئلة افتراضية»، وذلك عندما يباغت المسؤول سؤال، مثل: ما موقفكم إذا فعلت الدولة الفلانية كذلك وكذا؟!
والجميل أن حسن التعبير مسألة قابلة للتعلم. ولذلك لا يكاد يخلو معهد دبلوماسي أو إعلامي تدريبي من تلك البرامج. وككاتب وصحافي فقد تمت دعوتي من قبل منظمة عالمية إلى ورشة عمل في فيينا، حيث كنت بين ثلة من 20 صحافياً حول العالم، كان منهم لامعون في وكالات أنباء وصحيفتي «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» وغيرهما. وقد ناقشنا بتعمق اللغة الملغومة أو loaded language وكيف يمكن أن تشعل حرباً ضروساً، وتقلب الطاولة في أي مفاوضات أو علاقات متضعضعة. وكيف يمكن تعلم كل ذلك شفاهة وكتابة. وكان الصراع الفلسطيني مع الكيان الإسرائيلي هو لب موضوع المحاضرين.
تلك الورشة وكلام الوزير ذكّرني بدراسة روسية بعنوان «الكياسة كوسيلة مهمة في الدبلوماسية» للباحث فاباروفا وآخرين، قيل فيها إن اللغة هي من أبرز أدوات الدبلوماسية.
و«اللغة الدبلوماسية نوع من أنواع لغات عالم الأعمال (البزنس) الرسمية، فهي ورثت عنها جميع صفاتها كحياديتها، ومفرداتها، ودقتها، والتوحيد standardization، وخلوها من العاطفة». وهذا بالضبط ما نتوقعه من أي دبلوماسي. غير أن الرد الأكثر دبلوماسية جاء هذه المرة من تغريدة الإعلامية منتهى الرمحي حينما قالت: «في ناس بَدُو... وفي ناس لِسَه ما بَدُو». وهي مقولة بليغة تسحب البساط من تحت كل من يحاول الانتقاص من قدر أبناء الجزيرة العربية.