عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

كابوس التفكك يؤرّق بريطانيا

لم يدُم احتفال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون طويلاً.
فقد استطاع حزب المحافظين بزعامته اختراق «الجدار الأحمر» أو مدن الشمال بطبقاتها العمالية والتي كانت قبل سنوات قليلة معاقل سيطرة حزب العمال البريطاني. لكن الفوز الكبير الذي حققه الحزب في شمال ووسط إنجلترا في الانتخابات المحلية والفرعية التي جرت الخميس الماضي، لم يكن كافياً للتغطية على لغم في طريق جونسون، وهو احتمال استقلال اسكوتلندا عن المملكة المتحدة.
هذا اللغم أصبح جاهزاً للانفجار بعد أن فاز الحزب القومي الاسكوتلندي بزعامة نيكولا ستيرجن بـ64 مقعداً من أصل 129 مقعداً في البرلمان الاسكوتلندي، أي أقل بمقعد واحد فقط من الأغلبية المطلقة، بعد أن خاض الانتخابات ببرنامج ينص على إجراء استفتاء شعبي ثانٍ بشأن استقلال اسكوتلندا عن المملكة المتحدة. النتيجة النهائية للانتخابات أعطت الحزب القومي الاسكوتلندي أعلى حصة في التصويت منذ تشكيل البرلمان الاسكوتلندي في عام 1999.
وتشعر ستيرجن بالثقة لأنها ستتحالف مع حزب الخضر المؤيد للاستقلال والذي حصل على 8 مقاعد في الانتخابات مما يعني أغلبية مريحة لتيار الاستقلال في البرلمان الاسكوتلندي.
لهذا لم تهدر سيدة اسكوتلندا الحديدية دقيقة واحدة بعد انتصارها الكبير، فسارعت للتأكيد بأنها ستمضي قدماً في مسار الاستفتاء الثاني، وتحدت جونسون أن يحاول منع خطوة إجراء الاستفتاء باللجوء للمحكمة الدستورية العليا البريطانية. وأعلنت بوضوح تصميمها على خوض معركة دستورية مع الحكومة في لندن إذا حاولت تعطيل الاستفتاء.
رهان ستيرجن في محله. فمع أن جونسون قد يفكر في اللجوء للمحكمة العليا لمنع إجراء استفتاء شعبي ثانٍ على الاستقلال على أساس أن قرارات الاستفتاء يجب أن يتم التصويت عليها في البرلمان المركزي في ويستمنستر، إلا أنه يدرك أن تصعيد الأمر للمحكمة العليا سيكون مخاطرة سياسية قد تأتي بنتائج سلبية؛ بدايةً ليس هناك ضمان بأن يأتي قرار المحكمة لصالح الحكومة البريطانية، كما أن الأمر سيرفع شعبية ستيرجن أكثر وسيعزز النزعة القومية الانفصالية في اسكوتلندا وقد يجعل الانفصال أكثر ترجيحاً.
رئيسة الحكومة الاسكوتلندية أعدّت الأجواء لهذه المعركة المحتملة وسعت مبكراً لحشد الرأي العام. ففي خطاب النصر بعد إعلان نتيجة الانتخابات المحلية قالت إن الاستقلال «هو إرادة اسكوتلندا، وبالنظر إلى نتيجة هذه الانتخابات، لا يوجد أي مبرر ديمقراطي على الإطلاق لبوريس جونسون أو أي شخص آخر لكي يحاول عرقلة حق شعب اسكوتلندا في اختيار مستقبلنا»، وإن أي محاولة من لندن في هذا الاتجاه ستواجَه بقوة.
مرّت بريطانيا في السنوات القليلة الماضية بتغييرات سياسية جذرية على رأسها طبعاً «بريكست» الذي غيّر كل شيء في البلاد بما في ذلك الخريطة السياسية التقليدية. فإحدى النتائج اللافتة في انتخابات الأسبوع الماضي هي الصعوبة البالغة التي بات يجدها حزب العمال في استعادة معاقله التاريخية في مدن الشمال العمالي الفقيرة والمهمشة التي كانت العائلات فيها تصوّت لحزب العمال أباً عن جد، بوصفه حزب الطبقة العمالية.
لكن «بريكست» غيّر كل هذا. فالمدن الشمالية وطبقتها العمالية التي صوتت لـ«بريكست» في عام 2016 باتت تجد برامج حزب المحافظين من تقليص الهجرة، والتشدد حيال أوروبا، والسيطرة على الحدود، أقرب إليها من برامج حزب العمال الذي بات حزب الطبقة الوسطى الليبرالية التعددية التي تدعم الهجرة والحدود المفتوحة وعلاقات وثيقة مع الاتحاد الأوروبي.
لكن يظل أخطر تأثير لـ«بريكست» هو على مستقبل وحدة المملكة المتحدة نفسها. فقد أعطى «بريكست» للقوميين في اسكوتلندا مبرراً قوياً للقول إن الوضع السياسي في بريطانيا تغير بشكل جذري منذ 2016 مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وإنه بسبب هذا التغيير يجب أن يعطى الشعب الاسكوتلندي حق تقرير البقاء في إطار المملكة المتحدة أو الاستقلال ومحاولة الانضمام مجدداً للاتحاد الأوروبي. ذلك أن غالبية الاسكوتلنديين صوّتوا في استفتاء 2016 لصالح بقاء بريطانيا في عضوية الاتحاد الأوروبي، لذلك يشعرون بأن «بريكست» لا يمثل رغباتهم ولا يحقق مصالحهم.
ووضعت نيكولا ستيرجن جدولاً زمنياً فضفاضاً للاستفتاء الثاني، قائلةً إنها تأمل تمرير قرار إجراء الاستفتاء من البرلمان الاسكوتلندي في مطلع 2022، على أن يتم الاستعداد له خلال 2023، ويكون إجراؤه في مطلع 2024.
بعبارة أخرى يمكن القول إن نتائج الانتخابات المحلية تحمل في طياتها بذور تفكك المملكة المتحدة. فقد بدأ عملياً العد التنازلي لإجراء استفتاء شعبي ثانٍ على استقلال اسكوتلندا. ومن وجهة نظر القوميين الاسكوتلنديين المسألة ليست ما إذا كان الاستفتاء سيُجرى، وإنما متى سيُجرى؟
فما الأوراق التي في يد جونسون؟
يدرك الرجل أنه شخصياً غير محبوب في اسكوتلندا بسبب دوره البارز في حملة «بريكست»، كما يدرك مخاطر اللجوء للمحكمة العليا لمنع الشعب الاسكوتلندي من تقرير مستقبله. لكن مع ذلك هناك ورقة قوية في يد الحكومة البريطانية، وهي أنه بعد أكثر من 300 عام على الوحدة السياسية بين اسكوتلندا وإنجلترا يشعر كثير من الاسكوتلنديين والإنجليز بقوة أواصر العلاقات. فالتداخل الديموغرافي قديم ومتأصل. أيضاً هناك الجانب الاقتصادي. فبريطانيا خامس أكبر اقتصاد في العالم واستقلال اسكوتلندا قد تكون له تكلفة اقتصادية عالية بالنسبة إلى المواطن الاسكوتلندي العادي، وللمواطن البريطاني أيضاً بطبيعة الحال.
وعلى غرار استفتاء 2014 الذي صوّتت فيه أغلبية الاسكوتلنديين للبقاء في إطار المملكة المتحدة، سيجد البعض أن هناك صعوبات إجرائية تجعل الاستقلال مسألة غير مستساغة، من بينها إقامة حدود، وسك عملة جديدة وإيجاد غطاء مالي لها لكي تحل محل الجنيه الإسترليني.
هذه النقاط قد تكون حججاً قوية في يد جونسون وحكومته لثني اسكوتلندا عن الاستقلال، لكن المؤكد أن بريطانيا أمامها سنوات من التقلبات السياسية الكبيرة الناجمة عن «بريكست» وآثاره التي قد تنتهي بالمملكة المتحدة إلى دولة «غير متحدة».
فمعركة استفتاء اسكوتلندا ستكون لها تداعيات كبرى في بقية أقاليم بريطانيا من آيرلندا الشمالية إلى ويلز. وستيرجن رمت بكرة مشتعلة تجاه جونسون عندما قالت إن حزب المحافظين إذا حاول عرقلة إرادة الشعب الاسكوتلندي «فإن ذلك سوف يثبت بشكل قاطع أن المملكة المتحدة ليست شراكة بين أنداد، وأن حكومة ويستمنستر لم تعد ترى المملكة المتحدة على أنها اتحاد طوعي للأمم، وهذا في حد ذاته سيكون أقوى حجة لأن تسعى اسكوتلندا لكي تكون دولة مستقلة».
الحكومة البريطانية في مأزق حقيقي. فمعركة استفتاء استقلال اسكوتلندا ستكون مختلفة هذه المرة. وجونسون الذي ربح معركة «بريكست» قد يكتشف أنه خسر معركة الحفاظ على وحدة المملكة المتحدة.