رامي الريس
كاتب وصحافي وأستاذ جامعي من لبنان، وباحث ومترجم، يكتب في القضايا العربية والدولية، يحمل شهادة ماجستير في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت، وله مشاركات في العشرات من المؤتمرات وورش العمل في لبنان والخارج.
TT

لبنان بين العروبة و«المشرقية»

يُرفع بين الحين والآخر في لبنان شعار «المشرقيّة»، فتنادي به بعض الأطراف السياسيّة من دون أن تحدد له مفهوماً أو إطاراً نظريّاً أو فكريّاً أو عمليّاً معيّناً، ومن دون أن تشرح للرأي العام اللبناني وغير اللبناني المقاصد الحقيقيّة من خلال الطرح الظرفي لهذا الشعار، المرتبط بلحظة سياسيّة محددة وبشكل متقطع وغير منتظم، ما يعكس بوضوح أن الأهداف الحقيقيّة تتمّثل في بعث الرسائل للأطراف المعاكسة للطرح المشرقي، وليس السعي الحثيث لمتابعته واعتناقه واعتماده.
فَأَنْ يُطرح هذا الشعار في لبنان بالذات، فلذلك مدلولاته ووظائفه السياسيّة، بمعزل عن الالتباسات الفكريّة أو النظريّة أو حتى المحددات الجغرافيّة التي يفتقر إليها؛ فهذا شأن آخر، إذ ليس المطلوب بلورة رؤية سياسيّة واستراتيجيّة شاملة تتيح لمطلقيها استبدال الموروثات السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة، وتحديداً مفهوم العروبة، بقدر ما هو مطلوب دغدغة مشاعر شرائح طائفيّة ومذهبيّة معيّنة، والإيحاء لها بأن ثمة بدائل متوفرة من الممكن لها أن تشكل مظلة تجمعها مع مثيلاتها من الطوائف الأقلويّة الأخرى في «المشرق».
بطبيعة الحال، لا يستهدف هذا النقاش التعرّض للطروحات الدينيّة التي قد تعتمد هذا المصطلح، انطلاقاً من اعتبارات تاريخيّة أو تراثيّة أو لاهوتيّة معيّنة، أو تلك التي تعتبره يشكل وعاءً نظريّاً لطروحاتها التي قد تكون بعيدة عن السياسة، وتتمحور حول الدين والفلسفة وسواها من العلوم. إنه يتمحور تحديداً حول الاستثمار السياسي لتلك الاعتبارات، ومحاولة توظيفها لخدمة مشروع متأرجح؛ تارة يتجه إلى الشرق، وطوراً إلى الغرب، حيث المقياس الوحيد لرسم السياسات هو المصلحة الفئويّة الخاصة، وهي أبعد ما تكون عن مصلحة الجماعة التي يتم الادعاء بأن التحدث يتم باسمها.
وإذا كان الحديث يتصل هنا بشكل مباشر بالمسيحيين اللبنانيين؛ فما مصلحتهم الفعليّة بالالتحاق بهذا المحور المشرقي؟ وما مصلحتهم الفعليّة بالخروج من الحاضنة العربيّة التي كانوا من روادها في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وقد لعبوا أدواراً متقدمة فيها بين بيروت والقاهرة وسائر العواصم العربيّة؟ ألا يذكرون جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين نخلة وجرجي زيدان والأخطل الصغير وقسطنطين زريق وجورج أنطونيوس وسواهم العشرات ممن ساهموا في الأدب والتاريخ والفكر والثقافة واللغة والشعر؟
وإذا كان المقصود على المستوى الجغرافي بالإطار المشرقي مجموع دول لبنان وسوريا والعراق والأردن وفلسطين المحتلة؛ فهل تشكل هذه الدول بواقعها الآيديولوجي والسياسي الراهن الإطار الجامع الذي من الممكن لتلك الفئات أن تنسجم معه بما يتناقض مع دورها التاريخي وانفتاحها على الغرب، الذي طالما كانت تفاخر فيه وتسعى إلى توسيع قواعده؟ لو كانت الهوية المشرقيّة التي يرنو إليها هؤلاء مكرّسة وقائمة في تلك البلدان، وكانت قراراتها السياسيّة غير مصادرة من قبل محاور إقليميّة أهدافها وأجنداتها على طرفي نقيض مع طموحاتها؛ لأمكن القول عندئذٍ إن هذا الخيار السياسي متاح وممكن.
هل فعلاً تريد تلك الشريحة التخلي عن علاقاتها مع الغرب، الولايات المتحدة وفرنسا وأوروبا، واستبدال بها علاقات متجذرة مع سوريا وإيران وروسيا؟ هل وجدت، أو سوف تجد، هذه الشريحة اللبنانيّة مع سواها من الشرائح اللبنانيّة الأخرى، ما وجدته سابقاً من احتضان لدى دول الحاضنة العربيّة، وتحديداً دول الخليج العربي؟ ثم من قال إن سائر اللبنانيين سيقبلون جرّهم عنوة إلى هذا المحور الذي أضعف دولتهم المركزيّة واخترقها وأوصلها إلى حالة القطيعة مع العرب؟
بكل بساطة ووضوح، هذا الطرح «المشرقي» يستهدف بالدرجة الأولى هويّة لبنان العربيّة التي أثير الجدل السياسي حولها (وغير السياسي بشكل أو بآخر) على مدى عقود. فلبنان الذي خضع للانتداب الفرنسي ثم عقد بعض أبنائه صيغة الميثاق الوطني الذي كان تفاهماً طائفيّاً فوقيّاً حفظ الاستقلال الناشئ، إلا أنه بقي قاصراً عن تحقيق العدالة والمساواة بين اللبنانيين الذين اضطروا لسلوك معابر طوائفهم للوصول إلى دولتهم المرتجاة.
وكانت وثيقة الوفاق الوطني اللبناني (اتفاق الطائف) سنة 1989 التي أوقفت الحرب الأهليّة في لحظة تفاهم دولي - عربي كبير، وأتاحت للبنان النهوض مجدداً (بدعم عربي وليس مشرقيّاً)، وإعادة إعمار بناه الفوقيّة والتحتيّة التي دُمرّت بفعل النزاعات المسلحة الطويلة. لقد حسمت هذه الوثيقة الهوية العربية للبنان وحافظت على وجوده في موقعه العربي الطبيعي والتاريخي.
لذلك، الالتفاف اليوم على هذا الموقع من خلال طرح نظريّات لا تتلاءم مع الواقع اللبناني وتركيبته التعددية والمتنوعة والمعقدة عواقبه وخيمة وخطيرة على النسيج اللبناني برمته. فالفيدراليّة والمشرقيّة وسواهما من الطروحات لا تعدو كونها وصفات مدمرة لهذا النسيج الذي كان ويبقى رسالة بحد ذاته. التخلي عنه أثمانه باهظة، ومفاعيله تؤثر على موازين القوى الإقليميّة والعربيّة على حد سواء.