د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

لمَ الاحتفاء بخمس سنوات من «الرؤية»؟

احتفت المملكة العربية السعودية قبل أيام بمرور خمس سنوات على إطلاق «رؤية المملكة 2030». واستعرض ولي العهد السعودي إنجازات «الرؤية» بعد خمس سنوات من إطلاقها، وهي إنجازات مثبتة بأرقام ومؤشرات قياس بحسب منهجية «الإدارة المعتمدة على النتائج» وهي منهجية متبعة منذ فترة في خطط التنمية الوطنية؛ ومنها «رؤية المملكة 2030». وتعرف خطط التنمية الوطنية بأنها محاولات من الدول لبناء اقتصادات وطنية مرة ومتكاملة قادرة على مواجهة المخاطر السلبية للعولمة، وقادرة كذلك على اقتناص الفرص التي توفرها هذه العولمة. ويعود تاريخ الخطط الوطنية إلى ثلاثينات القرن الماضي، وقد تباينت نتائج الخطط خلال التسعين عاماً الماضية. وبالنظر إلى تاريخ هذه الخطط، يمكن تفهّم أسباب احتفاء السعودية بمرور خمسة أعوام على إطلاق رؤيتها.
كانت بداية خطط التنمية الوطنية بشكلها الحديث من الاتحاد السوفياتي عام 1928؛ حين أطلق خطة خمسيّة تستهدف زيادة التصنيع في دول الاتحاد، وقد نجحت هذه الخطة نجاحاً باهراً حينها، وحاولت دول عدة بعدها تبنّي هذا النوع من الخطط باء معظمه بالفشل. ولعل أشهر خطة جاءت بعدها ما عرفت بـ«خطة مارشال» أو «برنامج التعافي الأوروبي» الذي أُطلق بعد الحرب العالمية الثانية عام 1948، وهدفت هذه الخطة إلى إعادة بناء المدن الأوروبية المتضررة من الحرب، وتشييد البنى التحتية لتأهيل المدن، وتطوير الصناعات الأوروبية، وإزالة الحواجز التي تعوق التجارة بين الدول الأوروبية، وبناء الروابط التجارية بين أوروبا والولايات المتحدة.
وانطلقت الخطط الوطنية بشكل كبير في الخمسينات والستينات، وبدأت دول عديدة في التخطيط لمستقبلها لمدد تراوحت بين 5 سنوات و20 سنة، إلا إن غالبية هذه الخطط باءت بالفشل، وبدأت حملة من الانتقادات للخطط الوطنية في السبعينات، صاحبتها موجة من الإحباطات في الدول التي أطلقت هذه الخطط. وقد برر كثيرون هذه الإخفاقات بضعف المتابعة وعدم توفر البيانات عن مدى تقدّم الخطط، كما برر البعض الآخر الفشل بضعف الإرادة السياسية، أو حتى بمدى جودة الخطط نفسها. ولعل أكبر أخطاء هذه الخطط هي النظرة لها على أنها استثمارات بحتة، تتكون من تكاليف وعوائد مالية. وقد شن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في بداية الثمانينات هجوماً على الوزراء المشرفين على هذه الخطط وكذلك اللجان المشرفة عليها للسبب ذاته. وانتهى كثير من الدول في نهاية الثمانينات والتسعينات بالتخلي عن خططها الوطنية، وقام بعض الدول بتكليف وزارات المالية بالإشراف على البقية الباقية من هذه الخطط، وهو ما وضّح استمرارية التفكير بالجانب المالي فقط من هذه الخطط.
وخلال الخمسة عشر عاماً الماضية، عاد التوجه مرة أخرى إلى الخطط الوطنية لأسباب كثيرة؛ منها وجود المخاوف والفرص التي توفرها قوى العولمة الاقتصادية، ومنها أن العالم شهد عدداً من الأزمات التي أوجبت وجود خطة شاملة توضح توجهات البلدان على المدى الطويل، ولعل أزمة 2008 المالية كانت أحد أسباب تبني بعض الدول هذه الخطط. كما حاولت الأمم المتحدة في عام 2000 وضع توجهات دولية تتشارك فيها الدول عرفت حينها بـ«مشروع الألفية» أو «أهداف الألفيّة للتنمية»، إلا إن هذا المشروع لم يلق النجاح المتوقع، وتبع ذلك مشروع «أهداف التنمية المستدامة» الذي أطلق في عام 2015 من الأمم المتحدة كذلك، وحددت فيه 17 هدفاً للتنمية المستدامة وحثت الدول على العمل بها.
وعند النظر إلى الخطط الوطنية قبل 15 عاماً واليوم، يلاحظ أن الدول التي كانت تتبنى خططاً وطنية في عام 2006 كانت 62 دولة، بينما وصل هذا العدد إلى 134 دولة في عام 2018، وهو ما يعني أن 80 في المائة من سكان العالم يعيشون في دول تتبنى خططاً وطنية. وتتراوح مدد هذه الخطط بين 3 سنوات في حد أدنى، وأكثر من 20 سنة، ويحكم هذه المدة في كثير من الأحيان الفترات الانتخابية للدول، وتؤثر هذه الفترات بشكل واضح في استمرارية الخطط.
يذكر أن أكثر من 45 في المائة من الخطط الوطنية الحالية تقل مددها عن 6 سنوات، أي إنها خطط متوسطة الأفق.
إن مقارنة «رؤية المملكة 2030» بوصفها الخطة الوطنية للمملكة، بالخطط الوطنية للدول الأخرى خلال العقود الماضية، توضح أسباب الاحتفاء بمرور 5 سنوات على إطلاقها. فكثير من الخطط الوطنية في العالم لا تستمر على نهجها لهذه المدة؛ بل إن «رؤية المملكة» تعدّ هذه السنوات مرحلة أولية وانطلاقة لما هو آت، بينما يكتفي كثير من الخطط الوطنية الأخرى بهذه المدة. كما أن «رؤية المملكة» تجاوزت أخطاء الخطط الأخرى وحولتها إلى نقاط قوة، منها توفر البيانات عن مدى تقدم «الرؤية»، والأخذ بهذه البيانات بوصفها مؤشرات للنجاح وتحفيز الجوانب والمبادرات الأخرى لـ«الرؤية». كما أن «الرؤية» تجاوزت النظرة القاصرة للخطط الوطنية والتي عادة ما تنظر نظرة مالية بحتة، فركزت «الرؤية» على أهداف أخرى شملت جوانب اجتماعية وثقافية وسياحية، فجعلت لها مردودات ومؤشرات قياس تتجاوز المؤشرات الاقتصادية، ولم يخلّ ذلك بالمستهدفات الاقتصادية لـ«الرؤية»؛ بل على العكس؛ ساعد في تكاملها مع بقية المستهدفات.