سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

العربية كنز رقمي

المعلومات المغلوطة تغزو المحتوى العربي على «فيسبوك»، هذا أمر نعرفه، ولم نكن بحاجة لدراسة «معهد الحوار الاستراتيجي» في أميركا لنتأكد أن الخرافات والآراء المضللة باتت تسمم حياة رواد المواقع الاجتماعية. قد لا تكون اللغات الأخرى أفضل حالاً، لكن إدمان الشبان العرب هذه المواقع، حيث يقضي غالبيتهم برفقتها ما بين ثلاث وأربع ساعات في اليوم، هو الذي يبعث على القلق، ويسرّع في الانحدار. فنحن أمام خوارزميات، تجرّ مستخدمها للتلهي بالعاطفي والانفعالي، على حساب المعلومة الأكثر جدية. فالهذر على «واتساب» و«سناب شات» و«تويتر»، يتم على حساب البحث، والمقالة، والكتاب الإلكتروني والفيديو الوثائقي أو التربوي، أو حتى المشاركة الفاعلة على موقع معرفي تفاعلي مثل «ويكيبيديا»، حيث يبقى ضعيفاً عربياً، وينتظر عنايتنا.
يردد الخبراء مقولة شهيرة لبيل غيتس «إن المحتوى هو المَلك»، لأنه تبعاً لجودته، بدأ يحدد مكانة أهل كل لغة على الكوكب، ومستقبلهم، كما قدرتهم على توليد فرص العمل، والمساهمة في بناء المستقبل. فالمحتوى القوي والمفيد عِزٌّ لأهله، وباب مُشرعٌ لفتح آفاق الاقتصاد الجديد. وبما أن المحتوى العربي لا يتجاوز 5% اليوم من مجموع ما هو على الشبكة، فهو لا يسهم بأكثر من 4% من الاقتصاد الجديد، فيما المتوسط المسجل لغيرنا يصل إلى 22%. وهي هوّة خطيرة. فأمّة فتيّة، يُفترض أن تقتحم بتطبيقاتها ومنصاتها وفيديوهاتها وأفكارها وابتكاراتها وأخيلتها، الفضاء الافتراضي بحيوية، ومع ذلك لم تفعل.
ثمة ثرثرة تفوق الوصف، وفقر مدقع في المضمون. المحاولات عديدة للإسراع في وضع القطار على السكة، لكن الجهود مشتتة، والتنسيق العربي شبه منعدم. شركة «مجرّة»، من المساهمين في تصويب المسار، يقول أحد مؤسسيها عبد السلام هيكل، إن عدد المتحدثين باللغة الروسية يقارب المتحدثين بالعربية، ومع ذلك 8%، من أفضل مائة مليون موقع على الشبكة، باللغة الروسية. ابحث قليلاً تجد أن غالبية المواد بِلُغتك هي ترفيهية أو دينية أو مجرد أخبار سريعة يذروها الوقت. هذا ما يضطر العربي، مع أنه غالباً لا يجيد بشكل عميق لغة أجنبية، أن يلجأ إلى غير لغته، حين يحتاج إلى معلومات مفيدة، حسبما يخبرنا هيكل.
الدراسات تُظهر أن العرب يبحثون عن المعلومة بِلُغتهم الأم على عكس ما يشاع، والخبراء يوافقون على أن تشتُّت نشاط أمة تتحدث لغة واحدة على لغات مختلفة أخرى، هو هدر للطاقة وتضييع للفرص. قريباً ستذوب الفوارق بين اللغات، حين تصبح الترجمة الفورية مكتوبة ومسموعة، أسرع من البرق. سيبقى من اللغة الواحدة محتواها وجوهرها، وخصوصية أهلها، وتمايز المادة التي يقدمونها، فإما تحتاج إليها البشرية وتُقبل عليها وإما تلفظها وتُعرض عنها. والذين يظنون أن الكتابة بالإنجليزية ترفعهم درجة أو أكثر سيكتشفون أنهم يحدّقون في سراب.
محبط تقرير «إسكوا» الذي صدر قبل عامين، ويتحدث عن ضرورة وضع رؤية عربية تكنولوجية منسّقة ومتكاملة، واستخدام رمز تشفير موحد، لتشكيل سوق وكوكب إلى جانب الكواكب اللغوية الرقمية ويتفاعل معها. لكن حتى هذا لم يلتزم به البعض، متذرعين بصعوبات تقنية، أو من الخوف على السرّية. يحاول التقرير تكراراً المقارنة بين التطور التكنولوجي الذي أحرزه الاتحاد الأوروبي بفضل تعاضده، والعثرات العربية والبطء الشديد، لأن كلاً قرر أن يغرِّد في فضائه.
ما يحدث على الأرض ينعكس في الفضاء. كنا نستورد الملابس والسيارات والثلاجات، ها نحن نستهلك ابتكارات الآخرين الرقمية، وحين نُنتج القليل فهو مخزّن عند غيرنا، وبياناتنا ليست ملكنا. وقريباً جداً ستصبح المعلومات القيمة التي نحتاج إليها في الطب أو الأدب، وربما التسلية، مدفوعة الثمن. ونعيد الكَرّة ونشتري حتى تتصحّر الجيوب بدل أن نبيع ونربح ونستثمر.
دول عربية عملت واجتهدت ووضعت خططاً طويلة الأمد، وأخرى لا تزال تتعثر. لكن المشكلة الكبرى أن الدفع بالتكنولوجيا يتأتى من التشبيك وجمع البيانات وتحليلها والاستفادة منها. وأن يصبح للعرب عالمهم الإلكتروني الذي يتحدث لغتهم المشتركة، وضمنه يشترون ويبحثون ويتعلمون ويرفّهون عن أنفسهم، كما كل الأمم الأخرى. هذا يعني أن تتوفر بيانات عمّا يحبون، وما يغضبهم، أو يثير اهتمامهم، وهو ما يساعد على إطلاق المزيد من المشاريع المناسبة لأهل المزاج والعادات المتشابهة. «الويب لا تربط الأجهزة فحسب، بل تربط الناس»، كما قال تيم بيرنرز لي المهندس وعالِم الحواسيب، الذي نظّم الشبكة وأعطاها شكلها النهائي بعد أن كانت أسراباً مشتتة، ولا بد أنه أدرى بشعابها.
من يطلبون هذه المرة، من أهل الضاد الاستفادة من منجم العربية، هي الهيئات الأممية، والخبراء التكنولوجيون، الذين ينظرون إلينا باستغراب، ونحن نهدر كنز لغة واحدة تجمعنا، ونستطيع أن نبتكر بها ونصنع العجائب.
أنْ تبقى الفوضى العربية على الشبكة كما هي على الأرض، سيجعل فرصة إضافية تضيع، وقد تكون الأخيرة. شرح المؤرخ الكبير كمال الصليبي، في إحدى دراساته، أن العرب أخفقوا ويدفعون الثمن، لأنهم تهاونوا بمفصل تاريخي حاسم، حين لم يُخلصوا لعروبتهم، بعد الاستقلالات في خمسينات القرن الماضي، وتعاملوا بشيء من النفاق. فبينما كانت شعارات العروبة والوحدة تصدح عالية من الميكروفونات، كانت كل دولة تحت الطاولة تقدم مصالحها الضيقة، وتنتصر لثأرياتها الصغيرة. العروبة لم تعد شعارات وآيديولوجيات كما خمسينات القرن الماضي، صارت لغة مشتركة، وسوق عمل، نتعاضد جميعاً، ونكدح بمشاريعنا لنضخّ في عروقها نبض الإبداع والابتكار، أو نبقى نتناحر على وسائل التواصل ونتقاذف التهم والشتائم، وننقرض كالديناصورات.