اقترب موعد حلول موسم «أصيلة» السنوي الذي لم ينعقد في السنة الماضية، والذي من الواضح أنه لن ينعقد هذه السنة أيضاً لأنّ فيروس كورونا الذي عندما انطلق من الصين كنا نعتقد أنه عابرٌ وأنه لن يصبح ظاهرة «وبائية» تجتاح العالم بأسره، وهي أسوأ من «طاعون عمواس» الذي قرأنا عنه في كتب التاريخ. و«عمواس» هذه بلدة فلسطينية تقع إلى الغرب من مدينة القدس وتطلُّ عن بعد على البحر الأبيض المتوسط وعلى مدينة يافا التي أعطت للشعب الفلسطيني عدداً من قادة ثورته المعاصرة، ومن بينهم صلاح خلف (أبو إياد) وفاروق القدومي (أبو اللطف)، وغيرهما.
كان طاعون «عمواس» هذا قد فتك بقطاعات الجيش الإسلامي الذي كان متمركزاً في فلسطين، وفي مدينة القدس تحديداً، وهكذا فقد أصدر القائد أبو عبيدة عامر بن الجراح قراراً بالانتقال من هذه المنطقة الجبلية الشديدة البرودة إلى منطقة الأغوار إلى الشرق من نهر الأردن، والمعروف أنّ هذا القائد العظيم حقاً ومعه عددٌ من القادة الإسلاميين، من بينهم ضرار بن الأزور وآخرون قد أصبحت أضرحتهم «مزارات» يقصدها الأردنيون والفلسطينيون وبعض العرب والمسلمين الذين يمرون بهذه المنطقة في طريقهم وبخاصة في مواسم البرد والشتاء إلى سوريا ولبنان وما بعدها في اتجاه تركيا، وبخاصة في عهد الخلافة العثمانية.
إنّ ما تجدر الإشارة إليه هو أنّ عالم الأمس وحتى سنوات قريبة كان قد عانى من أمراضٍ معدية كثيرة من بينها الكوليرا والجدري وغيرهما، وهذا قبل أن يصبح العالم بحجم كرة القدم، وحيث إنه لم تكن هناك بالنسبة للمواصلات والتواصل بين دول الكرة الأرضية لا طائرات ولا قطارات ولا حتى سيارات متطورة، وهذا جعل أخطر الأوبئة تبقى محصورة في أمكنة محددة وأنّ «طاعون عمواس» هذا الآنف الذكر بقي محصوراً في منطقة واحدة، وأنه ما كانت هناك مثل هذه التجمعات البشرية، حيث أصبح عدد سكان بعض المدن العربية قد تجاوز الآن الملايين، وأن هناك كل هذه المدارس وكل هذه الجامعات وكل هذا التداخل الكوني الذي جعل العالم بأسره وكأنه قرية محدودة السكان وصغيرة!
إنّ ما دعا إلى الإشارة إلى هذه الفترة التاريخية هو أنّ هذا الوباء الذي اسمه «كورونا» والذي بات يجتاح العالم كله من الصين واليابان وغيرهما في الشرق إلى الولايات المتحدة في الغرب عطلّ كلّ شيء في الكرة الأرضية كلها، وأنه بات يتغيّر ويتخذُّ أشكالاً مختلفة وكأنه كلما يقال إن نهايته قد اقتربت يفاجئ سكان هذا الكون الكبير بموجات جديدة أكثر خطورة من الموجات السابقة.
إنّ ما دعا إلى هذه المقدمة هو أنّ «كورونا» هذه التي كلما يقال إن نهايتها قد اقتربت يفاجئ دول العالم كلها بما فيها الولايات المتحدة وأوروبا بكل دولها الكبيرة والصغيرة، ومن بينها أيضاً الصين واليابان وروسيا وكل ما في الكرة الأرضية، بموجة جديدة أكثر وحشية وفتكاً من كل الموجات السابقة. والواضح، لا بل المؤكد أنّ هذه الآفة المرعبة حقاً سوف تحول دون انعقاد مهرجان «أصيلة» لهذا العام كما حالت دون انعقاده في العام الماضي، وحيث إنه كان قبل هذا قد بقي متواصلاً منذ عام 1978، ولعلّ ما يجب أيضاً إيضاحه هنا هو أنّ هذا موسم ثقافي، دولي وعربي، بقي يلتئم دورياً بحضور العديد من الكفاءات العربية والعالمية التي كانت تؤمُّه من أربع رياح الكرة الأرضية.
والمفترض أنه معروف أنّ منتدى «أصيلة» دأب منح كبار المبدعين عرباً وغير عرب جوائز «تكريمية»، وأن من بين الفائزين كان الطيب صالح من (السودان)، وإبراهيم الكوني من (ليبيا)، ومبارك ربيع من (المغرب)، وحنا مينه من (سوريا)، وسحر خليفة من (فلسطين)، وحسونة المصباحي من (تونس)، وأحمد المدني من (المغرب أيضاً)، وحقيقة أنه لا بدَّ من إيضاح أنّ هذا الإنجاز الهائل كان ولا يزال وراءه الأستاذ محمد بن عيسى «الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة» الذي كان وزير خارجية المملكة المغربية وسفيراً سابقاً ومبعوثاً للأمم المتحدة وملحقاً إعلامياً ووزيراً للثقافة ونائباً في البرلمان المغربي.
وحقيقة، وهذه الحقيقة يجب أنْ تقال، وهي أنّ المملكة العربية السعودية قد لعبت دوراً أساسياً في العديد من هذه الإنجازات المغربية، وأنّ «مكتبة أصيلة»، التي تعتبر من أكبر المكتبات في العالم والتي تم تدشينها في مطلع عام 2006 والتي تحمل اسم الأمير بندر بن سلطان قد بدأت بأموالٍ سعودية وبإسنادٍ سعودي متواصل، وهذا ينطبق على إنجازات كثيرة يرفض السعوديون التحدث عنها، لكن الأشقاء المغاربة يصرون على قول حقائق الأمور، وعلى التأكيد على أنّ أشقاءهم السعوديين بقوا يقفون معهم ويساندونهم في مجالات متعددة، وأنّ موضوع المكتبة هذا الآنف الذكر هو مجرد مساندة ثقافية صغيرة مقارنة بأمورٍ كبيرة وفي غاية الأهمية يعرفها الشعب المغربي كله.
وإنّ ما لا يعرفه البعض ويجب أن يُقال هو أنّ السعودية قد اتبعت مع المملكة المغربية، «استراتيجية» «لقاء الخليج والمحيط»، أي الخليج العربي والمحيط الأطلسي، وإن عنوان هذا اللقاء هو أنّ صيف الشواطئ المغربية كان ولولا هذه الـ«كورونا» اللعينة لا يزال صيفاً سعودياً، وأنّ طنجة المغربية وغيرها تصبح في الصيف المبكر مدناً سعودية، وأنّ كثيرين من السعوديين يملكون منازل في معظم المدن المغربية.
وهنا، فإنّ ما يعرفه بعض المغاربة وبعض السعوديين هو أن العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، من كبار محبي المغرب وشعب المغرب وقيادته، وهذا في حقيقة الأمر هو عنوان تلاقي «الخليج العربي والمحيط الأطلسي» المغاربي، وهذه مسألة تنطبق على السياسة وعلى الاقتصاد وعلى الثقافة وعلى كل شيء.
ربما أنني قد ذهبت في هذا الأمر بعيداً لأنّ هذه الـ«كورونا» اللعينة قد حالت وللعام الثاني دون أن تنعقد «أصيلة»، وأن يلتقي فيها مبدعون كثر، وأن يزوروا مكتبة الأمير بندر بن سلطان، وأنْ يقضوا بعض الأماسي في مقاهي طنجة، وأنْ يمرّوا بمناطق كان مرّ بها الرحالة العظيم «ابن بطوطة»، محمد بن عبد الله بن محمد الطنجي، وأن يقوموا بزيارات إلى تطوان وإلى مدن مغربية أخرى.
إنّ المعروف أنّ المغرب حتى في تلك الفترة المبكرة التي غدت بعيدة جداً قد استوعب العرب والمسلمين الذين اضطروا لمغادرة الأندلس بعد المتغيرات التي طرأت منذ أكثر من ثمانمائة عام، فهذا البلد العظيم بحكم عوامل كثيرة كان ولا يزال صلة وصل بين العرب بكل دولهم البعيدة والقريبة وبين الغرب الأوروبي، وأيضاً بين أفريقيا التي غالبية الدول العربية تعتبر أيضاً دولاً أفريقية وهذه مسألة في غاية الأهمية... وهكذا نقول إن أصيلة غدت من خلال مهرجانها الثقافي السنوي بوابة عالمية عربية وأفريقية في اتجاه الغرب والشمال الأوروبي وحقيقة في كل الاتجاهات.
وعليه، فإنّ هذه «البلوة» التي اسمها «كورونا» التي باتت تجتاح العالم كله و«بطشت» ببعض دوله الكبيرة والصغيرة، ومن بينها الهند وبعض الدول الآسيوية، قد أثبتت بعد تغييب مهرجان «أصيلة» الكوني لعامين متلاحقين أنها عدوٌ للإبداع والعطاء الثقافي والحضاري، وأنها قد أغلقت وسائل الاتصال كلها بين الأمم والشعوب من مشرق الكرة الأرضية إلى مغربها ومن شمالها إلى جنوبها... والمشكلة هنا أنها باتت تتخذ أشكالاً متعددة وغدت عدواً يهدّد كل إبداعٍ في الكرة الأرضية.
8:37 دقيقه
TT
«كورونا» حالت وللسنة الثانية دون «أصيلة» المغربية!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة