داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

قرارات أميركية «فاتحة للشهية»... ولكن!

مثلما فوجئ الرأي العام الدولي بالعقوبات التي أصدرها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب في يونيو (حزيران) 2020 على مسؤولين كبار في المحكمة الجنائية الدولية، فوجئ مرة أخرى بقرار الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن برفع العقوبات في الأسبوع الماضي.
وقالت القاضية سيلفيا فيرنانديز دي غورمندي: «بصفتي رئيسة لجمعية الدول الأطراف في نظام روما الأساسي، أود أن أعرب عن ارتياحي العميق للقرار الذي اتخذته حكومة الولايات المتحدة برفع العقوبات المؤسفة ضد مدعية المحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا، التي تولت التحقيق في اتهامات لقوات أميركية بارتكاب جرائم حرب وانتهاك حقوق الإنسان في أفغانستان بعد احتلالها في عام 2001. وشمل القرار عقوبات كانت مفروضة أيضاً على فاكيسو موتشو رئيس قسم الاختصاص القضائي والتكامل والتعاون في المحكمة».
وأوضح وزير الخارجية الأميركي الحالي أنتوني بلينكن أن «واشنطن اتخذت هذه الخطوة رغم أنها ما زالت مختلفة بشدة مع إجراءات المحكمة الجنائية المتصلة بأفغانستان والأوضاع الفلسطينية، وما زالت تعارض ما تبذله المحكمة من جهود لتأكيد اختصاصها القضائي على الأفراد من الدول غير الأعضاء فيها مثل الولايات المتحدة وإسرائيل».
السؤال الذي يراود الكثير من القانونيين والمدعين والمدعى عليهم هو: هل يحق لأي دولة أن تعاقب المحكمة الجنائية الدولية بشخوص رئاستها أو مدعيها العام أو أعضائها؟
ينص نظام المحكمة الأساسي على أن يتمتع ممثلو الدول الأطراف الذين يحضرون جلسات المحكمة بالحصانة من الاعتقال أو الاحتجاز الشخصيين، والحصانة من كل نوع من أنواع الإجراءات القانونية فيما يصدر عنهم من أقوال متطرفة أو مكتوبة وجميع ما يقومون به من أفعال بصفتهم الرسمية. ويستمر منح هذه الحصانة حتى بعد توقف الأشخاص المعنيين عن ممارسة مهامهم في المحكمة.
كل سلطات الدول تقوم على ثلاثة أركان: السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية. وتمنح الدساتير القضاء سلطة محصنة لإشاعة العدالة، بشرط أن تحاسِب هذه السلطة نفسها في حالات الفساد أو الانحراف أو التجاوز على القوانين. فكيف تقدم السلطة التنفيذية في أي دولة على معاقبة قضاة ومدعين عامين ومحققين في أعلى سلطة قضائية في العالم هي المحكمة الجنائية الدولية؟ وأكثر من ذلك فإن ترمب أجاز لنفسه فرض عقوبات على أي مسؤول في هذه المحكمة يحقق مع عسكريين أميركيين أو يوجه إليهم تهماً «من دون موافقة واشنطن». وتسمح هذه العقوبات بتوسيع قيود الحصول على «التأشيرة» لدخول الولايات المتحدة ضد مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية وأفراد أسرهم. ونصب وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو نفسه «قاضياً» وهو يقول: «لا يمكن أن نجلس على الحياد إزاء محكمة صورية تهددنا». وأضاف: «إن المحكمة الدولية تريد مقاضاة إسرائيل... وهذه إهانة للعدالة». واتهم بومبيو المحكمة بأنها «مسيّسة»، معتبراً أن إسرائيل «صديق حميم لنا ولا يمكن للجنائية محاكمة من يدافع عن نفسه»، على حد تعبيره.
ودافعت المدعية العامة في المحكمة فاتو بنسودا عن المحكمة قائلة: «إنها تجري تحقيقاً بشأن فلسطين على نحو محايد ومستقل»، مؤكدة أن الادعاءات التي يتداولها الإعلام الإسرائيلي «لا أساس لها».
وقد لا يؤثر قرار الرئيس الأميركي الحالي كثيراً بالنسبة لموقف المحكمة من إسرائيل، بسبب التحالف المتين الذي يربط تل أبيب بواشنطن، لكن قرار الدائرة التمهيدية للمحكمة أكد اختصاصها قضائياً على دولة فلسطين التي تشمل الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية باعتبارها طرفاً في ميثاق روما. وميثاق روما هذا، لمن لم يطلع عليه، هو الأساس الذي تشكلت بموجبه معاهدة تأسيس المحكمة الجنائية الدولية حين عقدت مؤتمرها الدبلوماسي في العاصمة الإيطالية في 16 يوليو (تموز) 1998. ولم يدخل حيز التنفيذ إلا في يوليو 2002. وإذا ما سرى هذا الميثاق على محاكمة الانتهاكات الأميركية في أفغانستان، فإنه يمكن أن يسري حتماً على الانتهاكات المشابهة في العراق حين احتلته الولايات المتحدة في مثل هذه الأيام من عام 2003. وفي هذا الصنف من القضاء السياسي Political Judiciary هناك تباين في وجهات النظر بين المحكمة والبيت الأبيض، وإذا وضعنا خريطة العالم أمامنا، فإن المشكلة تتعقد أكثر في بؤر الانتهاكات الدولية، سواء في العراق وأفغانستان أو في سوريا وليبيا واليمن أو الضفة الغربية وغزة أو كشمير أو أرمينيا.
وإذا كانت الولايات المتحدة قد قررت رفع العقوبات الأميركية عن بعض الشخصيات الأساسية في المحكمة الجنائية الدولية، فإن القرار يظل «فتح صفحة جديدة» لمعالجة قرار مثير للجدل وقعه ترمب في ولايته السابقة، ما لم تستأنف المحكمة سياقاتها القانونية في محاكمة مرتكبي الانتهاكات غير الإنسانية في أي دولة إذا تحولت من حالات منفردة إلى ظاهرة عامة تتعارض كلياً مع حقوق الإنسان.
وفي ملفات عدد من كبار المحامين العراقيين والأجانب قضايا وانتهاكات خطيرة ارتكبتها قوات الاحتلال الأميركي ذهب ضحيتها آلاف العراقيين من النساء والأطفال والرجال الأبرياء، قد يتحمل مسؤوليتها بول بريمر، حين كان حاكماً مطلقاً للعراق في السنوات الأولى للاحتلال، والمرتزقة الأجانب من تشكيلات «بلاك ووتر» وغيرها المتعاقدة مع وزارة الدفاع الأميركية.
ويأتي قرار جو بايدن متزامناً مع قرار آخر للبيت الأبيض أكثر تأثيراً ومعنى من قرار رفع العقوبات عن المحكمة الجنائية؛ فقد قررت الإدارة الأميركية الجديدة استئناف المساعدات الاقتصادية والتنموية والإنسانية للشعب الفلسطيني، بما في ذلك استئناف تمويل وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، وكانت إدارة الرئيس السابق ترمب قد أوقفت أي مساعدات للفلسطينيين وللوكالة للضغط على السلطة الفلسطينية لكي تقبل ما يسمى «صفقة القرن».
ولم تكتفِ واشنطن باستئناف المساعدات للفلسطينيين، فإن الناطقة بلسان البيت الأبيض جين ساكي أعلنت أن الرئيس بايدن «يعتقد أن الحل الوحيد لقضية فلسطين هو حل الدولتين»، وتشمل المساعدات 75 مليون دولار من المساعدات الاقتصادية والتنموية والأمنية والإنسانية للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة و10 ملايين دولار لبرنامج بناء السلام و150 مليوناً لوكالة «الأونروا». ورحبت الرئاسة الفلسطينية بالتصريحات الأميركية، واستعدادها للعمل مع الأطراف الدولية للوصول إلى حل سياسي يضمن الأمن والاستقرار في المنطقة «بإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية».
طبعاً سيواجه قرار بايدن انتقاداً شديداً من الكونغرس الأميركي، بالإضافة لإسرائيل. وأعلنت تل أبيب رفضها التعاون مع المحكمة الدولية، وهو أمر متوقع. لكن واشنطن بدأت تفتح ملفات حساسة ومهمة في «مرحلة حرجة»، كما وصفتها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التي كانت متوقفة بشكل شبه كامل منذ عام 2018.
إنها قرارات «تفتح الشهية»، بشرط أن تكون مصحوبة بقرارات دولية منتظرة تضع حداً للغرور الإيراني الهدّام في المنطقة العربية، والميليشيات المسلحة الموالية لولاية الفقيه التي تعيث فساداً وانفلاتاً في أربع دول عربية. ومثلما تم توجيه اتهامات للجيش الأميركي بارتكاب جرائم حرب، لا بد من توجيه اتهامات إلى إيران بارتكاب جرائم ميليشيات.