جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

هل حان موعد غروب العولمة؟

السيدة مارين لوبان، رئيسة حزب التجمع الوطني، والمرشحة للانتخابات الرئاسية الفرنسية لعام 2022، قالت مؤخراً مؤكدة إنه «لم يعد هناك انقسام بين اليمين واليسار. الانقسام الآن بين الوطنية والعولمة».
الذين منّا يعرفون مارين لوبان، ربما لا يستغربون تصريحها الأخير، لكن التصريح نفسه يحيلنا بدوره إلى ما تواجهه العولمة من تراجع في السنوات الأخيرة. ويرى محللون ومعلقون سياسيون، من الغرب والشرق، أن ما شهده العالم من تغيّر في توجهات السياسة دولياً، يقود إلى استنتاج مفاده أن شمس العولمة تتجه، لا محالة، نحو غروب نهائي قريباً.
التنبؤ بموت العولمة ليس جديداً. لكن السؤال هذه الأيام حول إمكانية أفول زمنها، لم يأتِ من فراغ أو مصداقية. مؤشرات عديدة، من هنا وهناك، انبثقت في الفترة الأخيرة، ليس من السهل تجاهلها، أو عدم التفكير فيما يمكن أن تقود عالمنا نحوه. وأغلبها تشير إلى تراجع ملحوظ للعولمة؛ آخرها توجه الدول المصنّعة للمصل الواقي من الوباء إلى تأميمه، ومنع وصوله إلى الدول الأخرى، الأمر الذي يهزّ من سمعة نظام التجارة العالمي، ويضعف الثقة به. أضف إلى ذلك لجوء الدول إلى تبنّي سياسات تجارية حمائية وعدائية، بوضع الحواجز وبفرض رسوم ضرائبية كبيرة على الواردات.
في تحليلاتهم يتفق المعلقون والخبراء المتخصصون، على اختلافهم، على أن الحرب التجارية الدائرة بين بلدان الغرب والصين مؤشر على بداية حرب باردة جديدة، تدعو للقلق. ويستشهدون بما قامت به الصين، في الآونة الأخيرة، من ردود فعل تمثلت في دعوة وسائل الإعلام الرسمية للمواطنين بمقاطعة شراء منتوجات شركة «إتش أند إم» العالمية، وكذلك مقاطعة منتوجات شركة «نايكي» للأحذية الرياضية. والسبب امتناع شركة «إتش أند إم» عن شراء محاصيل القطن المزروع في منطقة «Xinjing» الصينية، لظهور تقارير تؤكد استغلال الصين لمواطنيها من المسلمين بتجميع محصوله سُخرة، كعقاب لهم، في انتهاك صريح لحقوقهم كمواطنين، وانتهاك شنيع لحقوق الإنسان على وجه العموم.
الشركات الغربية دُفعتْ إلى اتخاذ قرار بالامتناع عن شراء قطن تستخدمه في صناعة منتوجاتها بغرض تفادي مقاطعة في بلدانها بالغرب، حيث تنشط مؤسسات الدفاع على حقوق الإنسان، وحيث تجاهل العلاقة بين انتهاك حقوق الإنسان والربح التجاري لم يعدّ مقبولاً. البعض يرى أن تلك الشركات ضحية لحرب باردة جديدة، بين دول الغرب والصين، فرضت حضورها على العالم، وتختلف عن سابقتها بين بلدان الغرب الرأسمالي تحت قيادة الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي الاشتراكي، لأن الأخير كان يفتقد ما توفر لدى الصين حالياً من قوة اقتصادية هائلة على مستوى العالم، وما تحظى به من قدرات تقنية عالية، وسوق داخلية هائلة. وهذا، في حدّ ذاته، مؤشر خطير على أن العالم لم يعد مفتوحاً ومضيافاً، كما كان أمام حركة تنقل رأس المال العالمي بحرّية، وأسواقاً مضمونة ومفتوحة أمام منتوجات الشركات العالمية.
أضف إلى ذلك، ما لاحظناه من تصدعات تحدث في العلاقات التجارية بين بريطانيا من جهة والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، وتأثير ذلك سلبياً على وتيرة حركة تنقل البضائع تجارياً بين الجانبين. ومن الممكن لنا أيضاً الاستشهاد بما حدث من توقف لعديد من خطوط الإنتاج في التجارة الدولية لدى إغلاق منفذ قناة السويس اضطرارياً، خلال الفترة القصيرة الماضية، بسبب جنوح ناقلة حاويات ضخمة، وما تولد من جراء ذلك الإغلاق المؤقت والقصير من اضطراب في حركة التجارة العالمية، وظهور تقارير تدعو لإيجاد منافذ مائية أخرى حول أفريقيا، وما يكتنف ذلك من محاذير.
السياسات التجارية الحمائية ليست جديدة، بل جربها العالم من قبل، ويدرك ما سببته من آلام وحروب في الماضي، وأن تعود بلدان العالم، شرقاً وغرباً، إلى تبنّيها تحت شعار الحرص على توفير الاكتفاء الذاتي، لن يزيد إلا في تفاقم التوتر دولياً. والجدير بالذكر أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب كان أول من تبنّى السياسة الحمائية، ونفذها ضد الصين، ثم بعد ذلك طالت بلداناً أوروبية تُعدّ تاريخياً حليفة لبلاده. وقبل أن ينتهي عهد الرئيس ترمب، حلَّ الوباء الفيروسي، وسرعان ما بدأ تأثيره على خطوط إمداد التجارة الدولية، نتيجة لتبنّي سياسة الإغلاق العام في كثير من الدول؛ فكما هو معروف، فإن العولمة بطبيعتها ربطت عجلة الإنتاج في بلدان العالم تخصصياً. وعلى سبيل المثال، فإن إنتاج سيارة في مصنع ببلد ما يعتمد على عدة مصانع موزعة في كثير من دول العالم الأخرى، تخصصت في تصنيع أجزاء معينة لتلك السيارة. لكن حلول الوباء وانتشاره سبب تعطل تلك الخطوط، جعل كثيراً من الدول تعيد التفكير في سياستها، وتنحاز إلى إمكانية تصنيع تلك الأجزاء محلياً، لتفادي تعطل الإنتاج في مصانعها مستقبلاً، في حالة تكرر الأزمة الوبائية، أو أي أزمة دولية أخرى. ولنا أن نفكر فيما يمكن أن يخلقه ذلك من إشكالات اقتصادية لعديد من الدول في أسواق العمل، وما سيترتب عليه من سلبيات تطال حياة الملايين من البشر.