عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

الحرب التي تقترب في ملف سد النهضة

يبدو أننا بدأنا نقترب من النقطة التي حذر منها كثيرون، وهي اندلاع حرب بسبب سد النهضة بعد عشر سنوات من المفاوضات المتعثرة. فتصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أول من أمس كانت إنذاراً واضحاً باللجوء إلى الخيار العسكري، وبأن ملف السد دخل مرحلة حاسمة وخطيرة، ما دام ظلت المفاوضات متعثرة. ولا مبالغة في القول إن تطورات الأسبوعين المقبلين فيما يتعلق بجهود تحريك
المفاوضات بين مصر والسودان وإثيوبيا، للتوصل إلى توافق حول خطوات ملء السد وتشغيله، ستكون مصيرية ولها انعكاساتها على مستقبل البلدان الثلاثة، وتداعياتها في المنطقة كلها.
الذين اعتبروا تصريحات الرئيس المصري مفاجئة نسوا أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب كان قد حذر في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي من مغبة الجمود في مفاوضات سد النهضة، واصفاً الوضع بالخطير لأنه يهدد الأمن المائي وقائلاً إن مصر لا يمكنها أن تعيش هكذا، وإنها قد تقدم على تفجيره إذا لم تحل القضية بالتفاوض. ووجه اللوم إلى إثيوبيا قائلاً إنها أخلت باتفاق تم التفاوض عليه خمس سنوات، وعندما حانت لحظة التوقيع انسحبت، وكان يشير بذلك إلى الاتفاق الذي كان جاهزاً للتوقيع في فبراير (شباط) 2020 وشارك في مفاوضاته إلى جانب مصر والسودان وإثيوبيا، الولايات المتحدة والبنك الدولي.
ورغم أن إثيوبيا ردت يومها برفضها لما وصفته بالتهديدات العدائية قائلة إن الاتفاق كان منحازاً ضدها، فإنها أكدت في الوقت ذاته إصرارها على مواصلة بناء وملء السد. هذا الموقف يلخص في الواقع الطريقة التي تعاملت بها أديس أبابا مع المفاوضات، فهي تنخرط في المحادثات لكنها تمضي في إجراءاتها وخطواتها قبل التوصل إلى توافق، وهو ما اعتبرته القاهرة والخرطوم تعمداً للمماطلة، ومحاولة لفرض سياسة الأمر الواقع في تنفيذ خطوات ملء السد وتشغيله.
الأمور وصلت إلى نقطة خطرة العام الماضي عندما عمدت إثيوبيا إلى تنفيذ المرحلة الأولى من ملء السد غير عابئة بتحذيرات السودان ومصر من الإقدام على هذه الخطوة قبل الوصول إلى اتفاق في المفاوضات. الأدهى من ذلك أن حكومة آبي أحمد سعت لتضليل العالم عندما نفت أخباراً تداولتها وسائل إعلام إثيوبية وصوراً بالأقمار الصناعية نشرتها وسائل إعلام دولية عن بدء الملء، ليتبين لاحقاً أنها أخبار صحيحة.
منذ ذلك الوقت بدا واضحاً أن المفاوضات دخلت منعطفاً صعباً، وأنه إذا لم يمكن الوصول إلى اتفاق قبل الملء الثاني فإن مخاطر اندلاع حرب مياه ستكون عالية. فقد باتت هناك قناعة بأن إثيوبيا تتعمد التباطؤ والمراوغة بهدف إضاعة الوقت وتقليص الخيارات أمام السودان ومصر من دون الالتزام بإطار قانوني دولي متفق عليه. وترسخت هذه القناعة أكثر مع فشل جولات المفاوضات الأخيرة التي عقدت تحت رعاية الاتحاد الأفريقي، وإعلان إثيوبيا أنها ماضية في خططها لتنفيذ المرحلة الثانية من ملء السد في يوليو (تموز) المقبل، من دون مراعاة لمطالبة السودان ومصر بعدم تنفيذ الخطوة قبل التوصل لاتفاق.
ولأن الملء الثاني يعني فرض أمر واقع جديد، فقد حددت القاهرة والخرطوم منتصف شهر أبريل (نيسان) الحالي موعداً أقصى للمحادثات المتعثرة مع إثيوبيا قبل نظر خيارات أخرى. وربما في هذا الإطار يمكن قراءة تصريحات الرئيس السيسي أول من أمس التي لوّح فيها بالحرب، معتبراً أن المياه خط أحمر، وأن المساس بحصة بلاده سيؤدي إلى رد «سيؤثر على استقرار المنطقة بالكامل».
هناك إدراك دولي وإقليمي لخطورة الوضع ومخاوف جدية من انزلاق الأمور نحو الحرب، ولذلك يتوقع أن تتكثف التحركات للتوصل إلى حل، رغم الإدراك أن النافذة الزمنية المتاحة تضيق. وكان السودان قد اقترح رعاية رباعية للمفاوضات تضم الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والاتحاد الأفريقي. لكن حتى الآن ترفض إثيوبيا توسيع دائرة المفاوضات. ويوم الثلاثاء قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإثيوبية إن بلاده ملتزمة بالمحادثات التي يشارك فيها الاتحاد الأفريقي وأبلغت موقفها هذا إلى دونالد بوث، مبعوث واشنطن الخاص إلى السودان. وجدد المتحدث التزام بلاده بالقوانين الدولية المنظمة للأنهار العابرة للدول، وعدم إلحاق أي ضرر بدول المصب جراء بناء سد النهضة، لكنه أردف قائلاً إن إثيوبيا تسهم بنسبة 85 في المائة من مياه النيل «ولها حق قانوني وسيادي».
هذا الكلام فيه مشكلة ويعكس نظرة إثيوبية تثير الشكوك والمخاوف. فهناك مؤشرات على أن إثيوبيا ترى في السد ورقة ضغط استراتيجية مستقبلية على السودان ومصر. وإذا أخذنا موضوع التوتر الحدودي الراهن بين السودان وإثيوبيا كمثال، فإن أديس أبابا التي ترفض الاعتراف باتفاقية 1902 لترسيم الحدود بين البلدين، وتريد احتلال الفشقة مجدداً، ستجد في سد النهضة مستقبلاً ورقة تلوي بها ذراع السودان، وتهدده بها. مصر أيضاً تشعر أن إدارة إثيوبيا للمفاوضات بهذه الطريقة تشكل تهديداً مباشراً لأمنها القومي بسبب عدم الثقة بنياتها مستقبلاً إذا تحكمت في شريانها المائي من غير اتفاق واضح يحدد الأسس والمعايير لتشغيل السد، ويضع آليات لتبادل المعلومات والتنسيق، لا سيما أن أي خلل أو انهيار ولو جزئياً للسد ستكون له آثار كارثية عليها وعلى السودان قبلها.
نهر النيل لا يخضع لمنطق سيادي تقليدي لأنه لا سيادة مطلقة في موضوع المياه التي تتقاسمها دول عدة، والنيل باعتباره من الأنهار التي تتشارك فيها وتستفيد منها أكثر من دولة، فإنه يخضع للقواعد والقوانين الدولية المنظمة لاستغلال وتقاسم المياه بما يحفظ حقوق ومصالح الأطراف المعنية، ويمنع التصرف فيها بما يشكل خطراً على الدول الأخرى.
تقول إثيوبيا في كل مناسبة إنها تأمل في إنجاح المفاوضات، وإنها لن تلحق ضرراً بدول المصب، لكنها لا تبذل أي جهد حقيقي لإنجاح المفاوضات، بل وضح أنها تتعمد المماطلة. كما أنها بالفعل ألحقت ضرراً بدول المصب عندما نفذت الملء الأول للسد العام الماضي من دون تشاور مع السودان ومصر. ومع إصرارها على تنفيذ الملء الثاني حتى من دون التوصل لاتفاق فإن إثيوبيا دفعت السودان ومصر إلى تصعيد تحركاتهما الدبلوماسية بل والعسكرية أيضاً. فالمناورات العسكرية المشتركة التي جرت بين البلدين والاتصالات والزيارات المتسارعة بما فيها زيارة السيسي للخرطوم، تصب في هذا الإطار لحث إثيوبيا على التوصل إلى حل عاجل عبر المفاوضات قبل الملء الثاني للسد.
هناك إدراك عربي لخطورة تأثيرات القضية على الأمن المصري والسوداني. والبيانات التي خرجت من دول عربية مثل السعودية والبحرين وسلطنة عمان والأردن بدعم موقف البلدين في أزمة سد النهضة تشير إلى الخطورة التي يشعر بها الجميع من تداعياته على الأمن القومي المصري والسوداني والعربي، وعلى استقرار المنطقة كلها إذا اندلعت مواجهات عسكرية.
كل هذه التحركات تعكس شعوراً متزايداً أن الأيام المقبلة مرشحة إما لحدوث اختراق سياسي ودبلوماسي إيجابي في ملف السد، وإما حدوث انتكاسة تفتح الباب لسيناريوهات سلبية للغاية تصب في اتجاه مواجهة عسكرية ستكون لها تداعيات واسعة.