فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

شايغان ضد توفيقة أحمد فرديد

مع اشتداد الإقبال على الفلسفة وفنونها ورموزها بما يشبه الموضة لدرجة الادعاء والتزيد، برزت على السطح ظاهرة تحاول اقتفاء أثر الفقهاء الكبار الذين استخدموا الفلسفة لأغراض تثبيت الحقيقة قبل اختبارها بأدوات فلسفية وليست دينية.
موجات من المتحدثين في المجال الفلسفي ممن يسعون نحو التوفيق... توفيقية لا تشبه كثيراً ما عرف من قبل والتي فصلها محمد جابر الأنصاري في كتابه «الفكر العربي وصراع الأضداد» ومثل لها بـ «محمد حسين هيكل في الإيمان والمعرفة ووضع الأسس العامة للإحياء التوفيقي. ومصطفى عبد الرازق والعودة للأساس العقلي الإسلامي الخالص. ومحمد يوسف موسى في محاولة تأصيل الفلسفة بالقرآن. وإبراهيم اللبان والتوافق مع الفلسفة المثالية الحديثة. أو عبد الرزاق السنهوري والتوفيق بين الشريعة والقانون المدني»؛ وإنما توفيقية تحاول اجترار المنهج ومقولات الفيلسوف بغية الانتصار والدفاع عن الحقيقة الناجزة.
ثمة مثال سابق يمكن أن نقرأه في انتقادات شايغان على أحمد فرديد، الذي يصفه عبد الجبار الرفاعي في بحثه عنه بـ«فيلسوف ضد الفلسفة». وقبل أخذ ملاحظات شايغان على فرديد، نستفصل من الرفاعي عن سبب هذا الزخم الذي أخذه هيدغر على المستوى العرفاني من قبل فرديد. بعد أن يقسم الرفاعي اتجاهات الفكر الديني في إيران بمرجعياتها الغربية إلى: «هيدغريين؛ نسبة إلى مارتن هيدغر. غينونيين؛ نسبة إلى رينيه غينون. ماركسيين؛ نسبة إلى كارل ماركس. بوبريين؛ نسبة إلى كارل بوبر»، يصل إلى فرديد بوصفه من كبار الهيدغريين. يقول الرفاعي: «لفرط تبجيل فرديد لهيدغر منحه مرتبة ملكوتية لا ينالها سوى العرفاء، وهي (قرب الفرائض)». فقال: «إن هيدغر في مرتبة الوعي الذاتي وصل من قرب النوافل إلى قرب الفرائض»، ويقول: «فسرت هيدغر بالإسلام أنه الوحيد الذي ينسجم مع الجمهورية الإسلامية». تلك نظرة الرفاعي المهمة لاستثمار فرديد لهيدغر.
الباحث مشير عون له كتاب مهم بعنوان «هيدغر والفكر العربي»، وجدت فيه تفصيل انتقاد داريوش شايغان لأحمد فرديد بخصوص توظيف الفلسفة الهيدغرية لأفكار الثورة الإيرانية، ولتعزيز الحيوية العرفانية، ويمكن تلخيص الانتقاد بهذه المحاور:
* «شهّر داريوش شايغان بالاستراتيجية المشوِّهة التي اعتمدها الهيدغري الإيراني الذائع الصيت أحمد فرديد (1912 - 1994)، وذلك في دراسة حديثة تناول فيها الاقتبال الإيراني لهيدغر، وكان فرديد قد أسّس في إيران مجموعة (الهيدغريين الإسلاميين)». يرى شايغان أن الخطأ الذي ارتكبه فرديد جرّاء هذا التقريب «يكمن في الإرادة في إخفاء أوجه التباعد الفعلي التي تفصل بين الفضاءين الفكريين؛ الفضاء الإسلامي والفضاء الغربيّ (16). والواقع أن الفكرين العربي والفارسي ينتسبان كلاهما إلى الرؤية الإسلامية للعالم. إن تكامل الفكرين في سبيل الإعلاء من شأن هذه الرؤية بيّنٌ إلى حد بعيد بحيث يغدو مشروعاً أن نعتبر الاقتبال الإيراني لهيدغر بمثابة نموذج للاقتبال الإسلامي، القابل لإعادة إنتاجه في سياق الفكر العربي».
* «الواقع أن أحمد فرديد؛ وهو أحد أبرز ممثلي المدرسة الهيدغرية في إيران، اقترح قراءة مختلفة لمصير العقلانية في المجتمع الإيراني: إن الأمر الذي افتتن به فرديد كان نهاية الميتافيزيقا والفكرة غير المنتظرة التي أطلقها هيدغر في مقابلته مع أسبوعية (دير شبيغل) الألمانية، القاضية بأن إلهاً يستطيع وحده أن يخلصنا. كما اعتبر فرديد أن مجمل الإنتاج الأدبي والفني في بلاد فارس الحديثة هو من فضلات الميتافيزيقا الغربية وعائداتها. فإذا بلغنا إذن نهاية الميتافيزيقا ونحن جميعنا في حالة انتظار ظهورٍ مرتقب لأُلوهة جديدة، فأي صورة ستكون للعالم وقتذاك حين لا تلبث هذه الأُلوهة عينها أن تظهر؟».
* «يقول داريوش شايغان: تمحور تفكير فرديد حول هذه الرؤية الأنطولوجية: لقد أوَّلَ، من جهة، على هواه، تاريخ الفلسفة الغربية، ومن جهة ثانية، من أجل أن يدعّم هذه الرؤية، ويبحث، في الصوفية الخاصة بالإسلام، عمّا يقابلها من سوابق يُقتدى بها، راح ينهل من النصوص الصوفية المهمة، كنصوص ابن عربي مثلاً، أو من القصائد التي نظمها حافظ الشيرازي والتي تخالف إلى حد بعيد التفكير السائد، وهي القصائد التي استلهمها فرديد أكثر مما ينبغي. وعلى هذا النحو، شهدنا خليطاً مذهلاً والتباساً في الأنواع والبنى، كما لو كنا محونا بظاهر اليد الفلوق التاريخية والقطائع المعرفية: فالصوفية والفلسفة تلتقيان، وتصيب الواحدة الأخرى بالعدوى، فيعلم الله وحده، عندها، أي مزيج غريب ينتج عنهما». ويضيف: «تشكو طريقة فرديد في التفكير من قصورٍ مزدوج:
أ- التماثل المتسلسل (وهو التماثل الذي أشارَ إليه R. Aron في كتابه: «L’Opium des intellectuels»، لأن فرديد يماثل بين المفاهيم اللسانية والفلسفية التي لا يُقاس بعضها ببعض.
ب- النقد القائم على الاستنتاج والتعميم الغرّارين؛ أي إن فرديد استخدم أدوات مفهومية تعود إلى بنية مغايرة تماماً لبنيته الثقافية من أجل أن يفهم عالمه الخاص، العالم الذي ابتعد عن الغرب وحادَ عنه».
* «أعمال هيدغر تصلح كذريعة حديثة وجدّ نفيسة بالقدْر الذي تنوي به قراءة مماثلة استخدامَ ما وصل إليه هيدغر بغية إعادة إدراج الثورة الإيرانية في نسيج التاريخ الحالي للعالم. وعليه، يحكم المرء للثورة الإيرانية في رفضها للحداثة وفي استبعاد شرورها، لأن أحد أهم وجوه الفكر الغربي، وبالتحديد هيدغر، قد سلك هذه الطريق الخلاصية».
الخلاصة أن الانتقادات على أحمد فرديد جوهرها يصح على عموم الداخلين إلى الفلسفة لغرض الدفاع الآيديولوجي، أو استغلال المفاهيم لأغراض غير فلسفية. الرفاعي وجد مشتركات بين فرديد وطه عبد الرحمن، رغم تفوق الأخير، غير أن المشترك يكمن في الاستثمار المتطور للعدة الفلسفية؛ لكن لضرب الفلسفة. إن وصف الرفاعي لفرديد يلخص كل رحلته بالفعل... إنه «فيلسوف ضد الفلسفة».