نيال فيرغسون
كاتب من خدمة بلومبيرغ. أستاذ للتاريخ المعاصر في جامعة ستانفورد الأميركية
TT

أزمة تايوان هل تسطّر نهاية «الإمبراطورية الأميركية»؟

في مقال شهير له، استعار الفيلسوف الشهير إشعيا برلين تمييزاً ينتمي إلى الشاعر الإغريقي القديم أرخيلوخوس: «الثعلب يعرف كثيراً من الأشياء، لكن القنفذ يعرف شيئاً واحداً كبيراً».
في استعارته لهذا التمييز، كان برلين يتحدث عن الكتاب، لكن من الممكن سحب التمييز ذاته على مجال السياسات بين القوى العظمى. اليوم، هناك قوتان عظميان في العالم، الولايات المتحدة والصين. الأولى تشبه الثعلب وتتوزع سياستها الخارجية عبر كثير من المستويات. في المقابل، تمثل الصين القنفذ، ذلك أنها تربط جميع الأشياء والأمور على اختلافها برؤية داخلية واحدة كبيرة.
منذ 50 عاماً، سافر الثعلب الأكبر في تاريخ الدبلوماسية الأميركية هنري كيسنجر إلى بكين في مهمة سرية أدت لاحقاً إلى إحداث تغيير جوهري في التوازن العالمي للقوى. أما الخلفية الاستراتيجية للزيارة فتمثلت في نضال إدارة ريتشارد نيكسون لإخراج الولايات المتحدة من حرب فيتنام، من دون المساس بمكانتها ومصداقيتها بأقصى درجة ممكنة.
وكانت اجتماعات كيسنجر مع تشوان لاي، رئيس الوزراء الصيني، ربما الأكثر أهمية في تاريخ مسيرته الدبلوماسية. وباعتباره ثعلباً، كان أمام مستشار الأمن الوطني الأميركي عدة أهداف، وكان الهدف الرئيسي بينها تأمين الحصول على دعوة صينية عامة لرئيسه، نيكسون، لزيارة بكين العام التالي.
بجانب ذلك، كان كيسنجر يسعى كذلك للحصول على معاونة الصين في تأمين خروج الولايات المتحدة من فيتنام، بجانب أمله في استغلال الخلاف الصيني - السوفياتي على نحو يخلق ضغوطاً على الاتحاد السوفياتي، العدو الأول لأميركا أثناء الحرب الباردة، بغية إبطاء وتيرة سباق التسلح النووي.
أما استجابة تشوان فجاءت شبيهة برد فعل قنفذ، فقد سيطرت على ذهنه قضية واحدة فحسب: تايوان. ونظراً لتركز أنظاره على الكثير للغاية من الجوائز، كان كيسنجر على استعداد لتقديم التنازلات التي سعت الصين للحصول عليها.
وبعد مرور نصف قرن اليوم، تبقى تايوان القضية التي تحتل الأولوية الأولى أمام الصين. أما التاريخ فلم يتطور على النحو الذي توقعه كيسنجر، فرغم أن الرئيس الأميركي نيكسون توجه لزيارة الصين بالفعل في العام التالي حسبما كان مخططاً، وجرى انتزاع تايوان من الأمم المتحدة، وفي ظل رئاسة جيمي كارتر ألغت الولايات المتحدة معاهدة الدفاع المشتركة مع تايوان الموقعة عام 1954، فإن اللوبي الموالي لتايوان داخل الكونغرس نجح في إلقاء شريان حياة إلى تايوان عام 1979 تمثل في قانون العلاقات التايوانية.
وينص القانون على أن الولايات المتحدة ستعتبر «أي جهود لتحديد مستقبل تايوان عبر سبيل أخرى غير السبل السلمية، بما في ذلك المقاطعة أو الحظر، تهديداً لسلام وأمن منطقة غرب المحيط الهادي ومصدر قلق كبيراً للولايات المتحدة».
ومن وجهة نظر القنفذ الصيني، فإن هذا الغموض - ذلك أن الولايات المتحدة لا تعترف بتايوان كدولة مستقلة، لكنها في الوقت ذاته تضمن أمنها واستقلالها الذاتي الفعلي - يبقى وضعاً يتعذر التسامح إزاءه.
إلا أن ميزان القوى تحول منذ عام 1971 - وعلى نحو أشد عمقاً بكثير عما توقعه كيسنجر. منذ 50 عاماً، كانت الصين بلداً شديد الفقر، ورغم عدد سكانه الضخم، كان اقتصاده بمثابة نسبة بالغة الضآلة من إجمالي الناتج الداخلي الأميركي. هذا العام، يتوقع صندوق النقد الدولي أنه تبعاً للقيمة الحالية للدولار، سيصبح إجمالي الناتج المحلي الصيني ثلاثة أرباع إجمالي الناتج المحلي الأميركي. وتبعاً لمعيار تعادل القوة الشرائية، تفوقت الصين على الولايات المتحدة عام 2017.
وخلال الفترة ذاتها، ازدهرت تايوان هي الأخرى ونجحت في الصعود كواحد من أكثر اقتصاديات آسيا تقدماً، علاوة على أنها تحولت إلى دليل حي على أن المنتمين إلى العرق الصيني بإمكانهم الازدهار في ظل الديمقراطية. واليوم، أصبح النظام الاستبدادي الذي حكم تايوان في سبعينات القرن الماضي ذكرى بعيدة. واليوم، أصبحت تايوان نموذجاً مشرقاً لمجتمع حر بمقدوره استغلال التكنولوجيا في تمكين مواطنيه - ما يفسر أن استجابة تايوان لوباء «كوفيد - 19» كانت الأنجح على مستوى العالم بجميع المقاييس.
من ناحيته، نفذ دونالد ترمب حملته الانتخابية للوصول إلى الرئاسة ضد الصين باعتبارها تشكل تهديداً بصورة أساسية لوظائف قطاع التصنيع داخل الولايات المتحدة. وعندما دخل البيت الأبيض، استغرق بعض الوقت قبل أن يبدأ في التحرك فعلياً ضد بكين، لكن في عام 2018 بدأ في فرض تعريفات على الواردات الصينية. ومع ذلك، لم يستطع أن يمنع تحول حربه التجارية المفضلة سريعاً إلى ما يشبه الحرب الباردة الثانية - منافسة تكنولوجية وآيديولوجية وجيوسياسية في آن واحد.
وربما كان ترمب نفسه يتصرف على نحو شبيه بالقنفذ، وذلك مع تركز اهتمامه على أمر واحد فحسب: التعريفات. إلا أنه تحت قيادة وزير الخارجية مايك بومبيو استعادت السياسة الأميركية وجه الثعلب من جديد، وألقى بومبيو كل قضية يمكن تخيلها في وجه بكين، من الاعتماد على شركة «هواوي» إلى الواردات من أشباه الموصلات إلى قمع الحركة المؤيدة للديمقراطية في هونغ كونغ، وصولاً إلى الجذور الغامضة لفيروس «كوفيد - 19».
بطبيعة الحال أضيفت تايوان إلى القائمة، لكن زيادة مبيعات الأسلحة والاتصالات الدبلوماسية معها لم تحظيا بموقع الأولوية.
وعلى النقيض من إدارة ترمب، تعني إدارة بايدن كل كلمة تتفوه بها بخصوص مثل هذه القضايا. وفي جميع التصريحات التي أطلقها منذ توليه منصب وزير الخارجية، حرص أنتوني بلينكن على الإشارة إلى الصين باعتبارها ليس منافساً استراتيجياً فحسب، وإنما أيضاً دولة منتهكة لحقوق الإنسان. وفي يناير (كانون الثاني)، وصف معاملة الصين للإيغور بأنها «مساعٍ لارتكاب إبادة جماعية».
وفي كثير من الجوانب، يبدو الاستمرار في استراتيجية ترمب إزاء الصين مثيراً للدهشة، ذلك أن الحرب التجارية لم تنتهِ ولا الحرب التكنولوجية. وبخلاف الحديث عن حقوف الإنسان، يبقى الاختلاف الوحيد الأكبر بين بايدن وترمب في التعامل مع الصين، تركيز بايدن الشديد على أهمية الحلفاء في عملية ردع الصين - خصوصاً دول ما يدعى «الحوار الأمني الرباعي» الذي شكلته الولايات المتحدة مع أستراليا والهند واليابان.
أما التوجه الصيني فلا يزال شبيهاً بتوجه القنفذ. ولا يزال ضم تايوان تحت سيطرة بكين الأولوية الأولى والهدف الأكبر نصب عين الصين. ولسنوات، الآن تعمل الصين بدأب على تعزيز قدراتها من أجل إحكام سيطرتها على تايوان.
وباعتباري دارساً للتاريخ، أرى أمامي وضعاً مثيراً للقلق على نحو بالغ، خصوصاً أن الالتزام الأميركي تجاه تايوان أصبح أقوى شفاهة، بينما أصبح أضعف عسكرياً. وعندما يقال عن التزام ما إنه «قوي كالصخر»، بينما هو في حقيقة الأمر واهن كالرمال الناعمة، يظهر هناك خطر فادح في أن يقع الجانبان في هوة الحسابات الخاطئة.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»