مصطفى فحص
كاتب وناشط سياسي لبناني. حاصل على الماجستير في الدراسات الإقليمية. خبير في السياسة الخارجية لروسيا بالشرق الأوسط. متابع للشأنين الإيراني والعراقي. وهو زميل سابق في «معهد العلاقات الدولية - موسكو (MGIMO)». رئيس «جائزة هاني فحص للحوار والتعددية».
TT

إيران... رياح السموم

ليست رياح التغيير، ولكنها إن حصلت فستترك هذه المرة آثارها على بنية النظام وهيكليته، فالخارج المتربص والداخل المتوتر لا بد لهما من أن يحشرا النظام في زاوية صعبة، ويدفعاه إلى مواجهة دامية لن تقل شراسة عن سابقاتها، إلا إنها ستكون مكشوفة هذه المرة ومفضوحة. ففي الأفق تلوح موجة مظاهرات جديدة، لن يقيدها حذر الناس من جائحة «كورونا»، ولكن هذه المرة لن يكون سهلاً على النظام إخفاؤها أو عزلها، فقد أصبح بإمكان المحتجين الإيرانيين إيصال أخبارهم عبر تقنية أميركية تعمل بالأقمار الصناعية ستوفر الإنترنت في حال قُطع من قبل السلطات الإيرانية؛ وفقاً لما أكده موقع «صوت أميركا». وأوضح الموقع أن «طهران تصنف المتظاهرين أولاً على أنهم مجرمون، وبعد ذلك تغلق الإنترنت لمنع دخول المعلومات أو خروجها، حتى يتم إسكات الانتفاضة، ويتم اعتقال المتظاهرين بوحشية وتعذيبهم وقتلهم».
ففي آخر موجة مواجهات حصلت بين النظام والشعب سنة 2019 سقط نحو 1500 إيراني جرّاء عنف النظام وقمعه، وتمكن النظام حينها من إخفاء فعلته بعدما قطع شبكة الإنترنت وعزل إيران عن العالم الخارجي، وفي الآونة الأخيرة تزداد الحركات المطلبية، خصوصاً حركة المتقاعدين التي باتت ككرة الثلج، وتشكل حافزاً لكثير من النقابات على التحرك للمطالبة بحقوقهم، إضافة إلى العاملين في قطاع التعليم الذين لم يتلقوا رواتبهم منذ شهور. وبسبب تخوف النظام من تصاعد حدة المظاهرات الاحتجاجية واحتمال أن تصطدم بالقوى الأمنية، أُعلن عن تأسيس لجنة أمنية لمراقبة الاحتجاجات، فقد أعلنت وزارة الداخلية عن تشكيل «لجنة مراقبة» بمشاركة أجهزة مخابراتية وأمنية، مدّعية أنها لـ«(ضمان الأمن) في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية نتيجة تداعيات (كورونا) والعقوبات الدولية المفروضة».
مما لا شك فيه أن توصيات مجلس الأمن القومي بتشكيل لجنة كهذه سببها الاستعداد المسبق لقمع الاحتجاجات النقابية والعمالية التي تزداد وتيرتها وتشتد في الآونة الأخيرة في مختلف المحافظات الإيرانية، والتي من الممكن أن يرتفع عدد المشاركين فيها مع تخفيف القيود المتعلقة بجائحة «كورونا». وكانت مجلة خاصة تابعة لـ«الحرس الثوري» حذرت في تقرير سرّي كُشف عنه في 5 مارس (آذار) الحالي، من أن تشهد إيران احتجاجات شعبية يمكن أن تطيح النظام.
يعترف التقرير بأن الاحتجاجات التي عمّت إيران في أواخر ديسمبر (كانون الأول) 2017 ونوفمبر (تشرين الثاني) 2019، كانت نقاط تحول في تاريخ احتجاجات الشوارع في الجمهورية الإسلامية، فالتحول الفعلي حصل حينها في طبيعة المظاهرات التي بدأت مطلبية ومعيشية وسرعان ما تحولت إلى سياسية، وكسرت محرمات كبيرة لم يحدث أن تعرضت لها احتجاجات سابقة، حتى أثناء «الحركة الخضراء»، ففي الاحتجاجات الأخيرة كانت أغلب الشعارات موجهة ضد شخص المرشد الإيراني مباشرة، وقد جرت تسميته بالاسم والمطالبة بإسقاطه، واتهام «الحرس» بالوقوف وراء أعمال العنف والقمع، بينما كان المتظاهرون في الاحتجاجات السابقة يكتفون برفع شعارهم المبهم: «الموت للديكتاتور»، لذلك هناك خشية كبيرة لدى التيار الأصولي الحاكم من تكرار مشهد 2019 بشكل أشد وأوسع.
سابقاً استخدمت أجهزة الأمن الإيرانية أدواتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية كافة لإنهاء حركة الاحتجاجات، ولم تتردد في استخدام العنف القاتل لوقفها، وعلى ما يبدو أن أطرافاً أكثر تشدداً على استعداد لمنع تكرارها مجدداً، لن تتردد في خنق أي حركة شعبية أو مطلبية أو اجتماعية يمكن أن يؤدي تصاعدها إلى زعزعة استقرار النظام في هذه المرحلة الانتقالية المرتبطة بأمرين: الانتخابات الرئاسية، والمفاوضات النووية مع واشنطن، رغم بعض الأصوات التي خرجت من داخل التيار الحاكم في النظام وأوصت بضرورة النظر في «السياق والمساحة المناسبة لتحقيق خطابات جديدة في المجتمع» من قبل المسؤولين في إيران، والترويج بأن السلطات «جادة للغاية في مكافحة الفساد».
في السابق هبت على النظام رياح تغيير أقرب لرياح الخماسين، ولكن بعد تغير المناخ السياسي والشعبي، بات النظام بمواجهة رياح السموم التي تأتي عادة أكثر قوة وأشد حرارة من الخماسين، وتترك أثرها سريعاً على الطبيعة والأجواء والمناخ، وهي أقرب إلى الاستنتاج الذي وصل إليه تقرير «الحرس» السرّي بأنه «إذا انتشرت الاحتجاجات في الشوارع، فإن هيكل النظام وسلوكه سيتغيران، ويصبح تفكك البلاد خطيراً».