علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

محمد قطب وسفر الحوالي وتواطؤ صغير

توصل الدكتور حمزة المزيني عبر كتاب نبيه زكريا عبد ربه: «كيف نحيا بالقرآن»، الصادر عام 1983، إلى أنَّ العبارة المنسوبة إلى غلادستون مصدرها الأصلي في الكتابات الإسلامية المعاصرة، هو ترجمة عمر فروخ لكتاب «الإسلام على مفترق الطرق»؛ لأنَّ نبيه زكريا عبد ربه في ذلك الكتاب، أشار إلى أنَّه قد أخذها منه.
ذلك الكتاب اعتبره الدكتور حمزة أشهر الكتب المتقدمة التي تشير بعض الكتب والمقالات الإسلامية التي تورد إحدى صيغ العبارة إلى أخذها منه. والصحيح أنَّ أشهرها وأقدمها هو كتاب جلال العالم «قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام أبيدوا أهله». فهذا الكتاب هو الذي أحيا العبارة المبثوثة في ترجمة عمر فروخ ابتداءً من عام 1974، وكان قد عزاها إلى مصدرها الأصلي. ومنذ ذلك الحين بدأت العبارة تردّد عند الإسلاميين شفاهة وكتابة قبل أن يطل عقد الثمانينات، ويصدر نبيه زكريا عبد ربه كتابه فيه.
فهي قبل كتاب جلال العالم كانت واردة في كتاب محمد قطب: «هل نحن مسلمون؟» الصادر عام 1959، وهو الكتاب الذي ذكره الدكتور حمزة في تتبع ورودها في الكتابات الإسلامية المعاصرة، وأخطأ في ذكر تاريخ صدوره، فأنقص من هذا التاريخ ثماني سنوات.
ومع أنَّ هذا الكتاب مقروء ومؤثر في حركة الصحوة الإسلامية، إلا أنَّ أحداً لم ينقلها عنه؛ لأنَّه أفسدها على الإسلاميين بتمصيره لها. فهم يرون أنَّ المؤامرة الغربية هي مؤامرة أممية على الأمة الإسلامية في شتى الأقطار، سواءً أكانت هذه الأقطار دولاً إسلامية أم غير إسلامية، وليست مؤامرة قطرية مقتصرة على مسلمي مصر وحسب.
وقد فات الدكتور حمزة أيضاً، أن يلحظ أنَّ محمد قطب لم يعز العبارة إلى ترجمة عمر فروخ؛ لأنَّه قد تلاعب بالعبارة وعبث بها. فعمر فروخ قال في تعليق شارح لفكرة في متن كتاب محمد أسد: «الإسلام على مفترق الطرق»: «ولا ريب في أنَّ هذه الحقيقة الثمينة قد انكشفت لغلادستون – وزير بريطانيا الأول وأحد موطدي أركان الإمبراطورية في الشرق – حينما قال: ما دام هذا القرآن موجوداً، فلن تستطيع أوروبة السيطرة على الشرق، ولا أن تكون هي نفسها في أمان».
محمد قطب مَسْرَحَ هذه العبارة ومصَّرها، قائلاً «في سنة 1882 وقف المستر غلادستون رئيس الوزارة البريطانية في مجلس العموم البريطاني يمسك بيده نسخة من المصحف، ويقول لأعضاء المجلس: إنَّه ما دام هذا الكتاب باقياً في أيدي المصريين، فلن يستقر لنا قرار في تلك البلاد».
ثم أنفق على هذه المسرحة والتمصير علامتي تعجب من كيسه الخاص.
وقد لا يفوت القارئ أنَّ اختيار محمد قطب لعام 1882؛ لأن يقول غلادستون فيه العبارة المنسوبة إليه سببه أنَّ ذلك العام هو عام احتلال بريطانيا لمصر.
وفات الدكتور حمزة أنَّ محمد قطب قال في صفحة 174 من كتابه المذكور «أقتطف هنا سطوراً موحية من كتاب (الإسلام على مفترق الطرق)...». ونرى أنَّه هنا يحيل وهناك لم يحل لأنَّه مصَّر «وحي» سطورها!
وقبل محمد قطب أوردها أنور الجندي في سلسلة مقالاته عن حسن البنا، لكن هذه المقالات كانت مطمورة في مجلة «الرسالة» منذ عام 1952.
أما بحث محمود شيت خطاب فهو – على أهميته في التتبع الزمني لورود العبارة - بحث نشر بعد صدور كتاب جلال العالم في مجلة نصف سنوية هي مجلة «البحوث الإسلامية» ما بين عامي 1975 و1976 والتي تصدر عن الرئاسة العامة للبحوث العلمية والافتاء. ومثل هذه المجلات يقل قراؤها. هذا إضافة إلى أنَّ الصيغة التي أوردها محمود شيت خطاب ليست هي الصيغة الشائعة.
وأهمية كتاب جلال العالم – أخيراً – أنَّه جمع إلى سنة صدوره ما هو متناثر في كتابات الإسلاميين من أقوال الغربيين على مختلف أصنافهم لتسويغ الحقد الديني والسياسي والثقافي والفكري على الغرب.
قلت في مقالي «حمزة المزيني وهجومه الضاري على عمر فروخ»، إنَّ اختياره لمثاله الثاني، وهو كتاب «شرح الطحاوية» لسفر الحوالي، لورود العبارة المنسوبة إلى غلادستون، لم يكن موفقاً لأكثر من سبب، وذكرت سبباً واحداً، وسأذكر الآن السببين الآخرين.
كتاب «شرح الطحاوية» لسفر الحوالي، هو في الأصل كان دروساً في عقيدة أهل السنة والجماعة، يحضر من مكة إلى جدة أسبوعياً لإلقائها في جامع الأمير متعب بن عبد العزيز. هذه الدروس تحضرها طائفة من الصحوة الإسلامية المهتمة بعلم العقيدة الإسلامية. أي أنَّها ليست محاضرة عامة يحضرها عامة الناس أو كتاباً يقرأه جمهور الكتاب الإسلامي وسواهم من القراء.
هذه الدروس امتدت لسنوات، وقد بدأها بعد انتشار العبارة المنسوبة إلى غلادستون بين الإسلاميين. كما أنَّها طبعت في مجموعة كتب في وقت متأخر جداً.
وقد سألت الباحث القانوني محمد الدوسري عن هذه الدروس، وسيستشف القارئ فحوى أسئلتي من ثنايا إجابته التي قال فيها «يلقيها شفاهة. كان يعد لها إعداداً جيداً وكان يقرأ كثيراً، وكل درس كان يعتبره وكأنَّه شيء جديد. هذا في الدرس العقدي. ويضيف معه درساً حركياً يربط ما يعتقد أنَّه من مخالفات الواقع العقدية بما يلقيه من دروس. مثلاً عندما مرَّ على مسألة الحكم بغير ما أنزل الله، أحضر رسالة الشيخ محمد بن إبراهيم آل شيخ عن الحكم بغير ما أنزل الله، ثم شرحها شرحاً مفصلاً. استغرق شرحه لها حلقات عدة. مما يعني أنَّه قضى في إعدادها أسابيع عدة. وذلك لأنَّ (شرح الطحاوية) كان يلقيه أسبوعياً. وشرح سفر الشفهي مسجل في أشرطة كاسيت، وطلبته يفرّغون الأشرطة في مذكرات، ويتم عرضها في موقع الشيخ سفر. فلما اكتمل (شرح الطحاوية)، وتمَّ إفراغ شرح سفر الحوالي كتابة، وُضع الشرح المكتوب في موقعه الإلكتروني، وتم وضع تفريغ شرحه في ملفات PDF، وبعدما أنزلت جميع شروحه، أصبح (شرح الطحاوية) في خمسة مجلدات كبار. وهنا أوضح أنَّ شرح سفر للطحاوية لم يتم طبعه في دار أو مكتبة، بل هو موجود في موقع سفر الحوالي الإلكتروني. وهو في الأصل شرح قولي شفهي، تمَّ إفراغه في أوراق مكتوبة وضعت في موقعه. وسفر انتهى من (شرح الطحاوية) في نهاية التسعينات الميلادية. وكان قد بدأه نحو عام 1987».
بعد هذه الإجابة التفصيلية التي تفضل بها الباحث القانوني محمد الدوسري الذي كان حضر بعض تلك الدروس، سأقول ملحوظة هي عكس ملحوظة الدكتور حمزة المزيني. وهي: أن يعزو سفر الحولي في دروسه الدينية «شرح الطحاوية» العبارة المنسوبة إلى غلادستون إلى مصدر، هو الذي سيكون أمراً لافتاً وليس العكس.
في مقالي المذكور، قلت إنَّ المثال النافع هو رسالته عن العلمانية للحصول على درجة الماجستير، وليس كتابه «شرح الطحاوية»، وسأبسط الآن الأسباب.
نحن أمام رسالة علمية. وهذه الرسالة طبعها مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة أم القرى في كتاب عام 1982. وهذا العام من أعوام تصاعد انتشار العبارة المنسوبة إلى غلادستون. وهذه الرسالة من ثمار إدخال مادة «المذاهب الفكرية» ضمن برنامج الدراسات العليا لفرع العقيدة في تلك الجامعة. وهذه المادة هي التي تسمى في جامعات أخرى مادة «الثقافة الإسلامية». وهذه المادة تعيد وتكرر كل ما يقال في الكتاب الإسلامي. والعبارة المنسوبة إلى غلادستون تُردّد بين جنبات هذا الكتاب وتلك المادة.
المشرف على الرسالة هو محمد قطب. ومحمد قطب من الكتاب المؤثرين في فكر الصحوة الإسلامية في العالم العربي والعالم الإسلامي، بدءاً من كتابه «الإنسان بين المادية والإسلام» الصادر في عام 1953.
الرسالة المعنونة بـ«العلمانية: نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة» هي أضخم عمل أعدَّه إسلامي عن موضوع العلمانية من حيث الحجم. وهي الأكثر إحاطة بموضوع العلمانية من منظور الإسلاميين إلى الآن.
فقبل صدور هذه الرسالة كان الدكتور محمد البهي كتب عن العلمانية على نحو متناثر في كتابه «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي» الصادر عام 1957 وكتابه «الفكر الإسلامي والمجتمع المعاصر مشكلات الحكم والتوجيه» الصادر عام 1965، وكتابه «الفكر الإسلامي والمجتمع المعاصر: مشكلات الأسرة والتكافل» الصادر عام 1967. وكان الدكتور يوسف القرضاوي كتب عنها في الجزء الأول من سلسلة حتمياته الإسلامية: «الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا»، الصادر عام 1971.
وكان الإسلاميون ألّفوا كتباً أفردوها لموضوع العلمانية من منظورهم، كأنور الجندي الذي أصدر عام 1973، كتاب «سقوط العلمانية»، والدكتور عماد الدين خليل الذي أصدر عام 1975 كتاب «تهافت العلمانية»، والشيخ محمد مهدي شمس الدين الذي أصدر عام 1978 كتاب «العلمانية: تحليل ونقد للعلمانية محتوى وتاريخاً في مواجهة المسيحية والإسلام، وهل تصلح حلاً لمشاكل لبنان؟».
هذه الكتب من حيث العدد وعبر ثلاثة عقود زمنية، تعد كتباً قليلة. ولن نكون مجحفين في حق هؤلاء، ولا في غيرهم من الإسلاميين الذين كتبوا عن العلمانية بعد صدور رسالة سفر الحوالي عن العلمانية في كتاب عام 1982، إن قلنا إنَّ هذه الرسالة هي ذروة ما ألّفه الإسلاميون عن العلمانية حتى الآن.
ومن المهم عندي أن أنبّه القارئ إلى أني لا أضع أنور الجندي – الذي صار الإسلاميون في وقت متأخر يطلقون عليه ألقاباً كبيرة – في سياق مقارن مع الذين عدّدت أسماءهم، ولا مع سفر الحوالي، فالرجل إذا تجاوز في مؤلفاته الجمع والتقميش إلى التحليل والتنطير، فهو والسطحية صنوان.
كاتب الرسالة هو أوسع الإسلاميين في السعودية اطلاعاً على الكتاب الإسلامي المعاصر وعلى روافده من الكتب العربية الحديثة والكتب الأجنبية المترجمة، وأوسعهم اطلاعاً على الثقافة الغربية. ولا شك أنَّه استفاد من ملازمته الطويلة لمحمد قطب. وأنَّ دور محمد قطب في الرسالة كان أكثر من دور المشرف عليها!
الرسالة، مثال من أمثلة عديدة، تثبت خطأ الرأي الذي ذهب الدكتور حمزة إليه، وهو أنَّ الإسلاميين كانوا ضحايا عمى آيديولوجي وغفلة آيديولوجية في الترويج للعبارة المنسوبة إلى غلادستون.
سفر الحوالي في رسالته للماجستير عزا العبارة المنسوبة إلى غلادستون – كما قلنا أكثر من مرة – إلى كتاب جلال العالم «قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام أبيدوا أهله»، ولم يقل – كما تقتضي أصول النقل –: نقلاً عن كتاب «الإسلام على مفترق الطرق».
وذلك لأنَّ المصدر الوسيط «كتاب جلال العالم» أشار إلى أنَّه أخذها من مصدرها الأصلي «الإسلام على مفترق الطرق». هذا في حالة أنَّه لم يستطع الوصول إلى المصدر الأصلي. ومن ناحية منهجية كان يجب عليه ألا يرجع إلى المصدر الوسيط لأخذ نص العبارة منه؛ لأنَّ كتاب «الإسلام على مفترق الطرق» كان من ضمن مراجع رسالته، وقد اقتبس منه خمس مرات.
ولنا أن نسأل: بما أنَّ ضوابط النقل في عزو العبارة إلى مصدرها الأصلي، لا ضابط منهجياً عليها، لماذا لم يعز العبارة إلى كتاب ملهمه الروحي وأستاذه العقائدي والمشرف على رسالته وعلى ثقافته وعلى عقيدته، محمد قطب: «هل نحن مسلمون؟»، وبخاصة أنَّ هذا الكتاب كان من ضمن مراجع رسالته، وقد اقتبس منه أربع مرات؟!
في تقديري، أنَّ محمد قطب، لما رأى في سبعينات القرن الماضي، أنَّه لا تورد صيغته للعبارة في الكتابات الإسلامية، بسبب تمصيره لها، (وربما عوتب في هذا الأمر من قِبل بعض الإسلاميين غير المصريين ممن لهمم وزن عنده)، أشار على تلميذه أن يهمل العزو إلى كتابه. وهذا إقرار ضمني منه بخطئه في تمصير العبارة.
من طبائع الإسلاميين المرذولة أنَّهم يتواطؤون على الخطأ وعلى الخطيئة - والخطأ الذي اقترفه محمد قطب هو خطأ علمي وخطأ أخلاقي - ولا يصححونه في نقاش مكتوب. فكتاب محمد أسد «الإسلام على مفترق الطرق» الذي ترجمه عمر فروخ إلى العربية كتاب مقروء عند الإسلاميين بأجيالهم المتعاقبة بدرجة كبيرة. وكذلك كتاب محمد قطب «هل نحن مسلمون؟».
ولا بد أنَّ كثيراً من كتّابهم لفت نظرهم الفارق الكبير بين صيغة العبارة عند عمر فروخ وعند محمد قطب. ومع هذا لم يشر أحد منهم في مقالة أو بحث أو كتاب إلى هذه الملحوظة. ولم يسأل محمد قطب عن المصدر الذي نقل العبارة منه المختلفة في صيغتها ومضمونها، عن صيغتها ومضمونها في مصدرها الأصلي عند عمر فروخ.
مثل هذا التواطؤ على الخطأ لا نجده في تيارات عقائدية حزبية أخرى في العالم العربي.
محمد قطب وسفر الحوالي تواطآ على عزو العبارة إلى مصدر غير أصلي، وزيادة على ذلك، هذا المصدر غير الأصلي مؤلفه يحمل اسماً مستعاراً، وناشر الكتاب ناشر مجهول، وتواطآ ألا يشير سفر الحوالي في رسالته إلى هاتين المعلومتين، لا في هامش الصفحة التي عزا العبارة فيها إلى كتاب جلال العالم، ولا حين أورد بيانات نشره في قائمة المراجع كيلا يحوم شكٌّ حول المعلومات الواردة في الكتاب. وللحديث بقية...