عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

نهاية السلطة الرابعة كما نعرفها!

عندما وضع اقتصاديو ومفكرو القرن التاسع عشر نظرياتهم الاقتصادية سواء عن السوق وتحديد قيمة السلعة، أو قوانين الميزة النسبية، أو نظريات عن التعاون أو المنافسة التي يأكل فيها الكبير الصغير وصولاً إلى مرحلة احتكار سوق خدمات وسلع معينة وبالتالي التحكم في الأسعار، فلا أعتقد أنه خطر ببالهم أن يتطور الاحتكار في مجال الأخبار والمعلومات وحرية التعبير في حياة جيل واحد فقط.
مَن تابع مقالاتنا في الأشهر الأخيرة، خصوصاً معركة «فيسبوك» و«غوغل» (التي يحتكر إدارتها شباب صغير السن قليل الخبرة غير خاضع لمحاسبة أي جهة) مع البرلمان الأسترالي المنتخب من شعبه، يلاحظ أن ما لم يخطر ببال واضعي قوانين السوق الاقتصادية قبل مائة عام، أصبح الآن واقعاً.
آخر مراحل الاحتكار التي تثير قلق المدافعين عن حرية التعبير وحرية المعلومات للناس، وقلق الحريصين على مصير الصحف الصغيرة، خصوصاً صحف المدن والأقاليم التي تخدم سكانها وتعبّر عن حاجات المجتمعات، هو الاتفاق الذي توصلت إليه «غوغل» مع أحد عمالقة النشر والبث الصحافي والإذاعي، شركة «نيوز كوربوريشن» المملوكة لإمبراطور الصحافة والنشر الملياردير الأسترالي الأميركي روبرت ميردوخ، لدفع مقابل مادي لصحف ومصادر بث ونشر المؤسسة، عند توجيه محركات «غوغل» الباحث المستخدم لهذه المواقع. «نيوز كوربوريشن» قابضة لشركات ودور نشر تتحكم في صناعات الصحافة والمعلومات والنشر والترفيه والثقافة والفنون والرياضة، ومنها «فوكس نيوز» التلفزيونية، و«فوكس القرن العشرين للإنتاج السينمائي»، وجزء معتبَر من أسهم شبكة «سكاي»، ومجموعة صحف «التايمز» و«صنداي تايمز» و«الصن» الأوسع انتشاراً في بريطانيا. كما تمتلك «وول ستريت جورنال» في أوروبا وأميركا، ودليل «داو جونز» وعدداً كبيراً من نشرات البورصة وأسواق المال، وعدداً من الصحف والإذاعات الأميركية، إلى جانب 123 صحيفة في أستراليا، وأكثر من خمسين مجلة في بلدان الكومنولث، على سبيل المثال لا الحصر.
عمالقة الصحافة والنشر والبث كـ«سي إن إن»، أو مجموعة صحف ميردوخ، وفق مراحل التطور الاقتصادي، بقدرتهم إخراج الصحف الأخرى من السوق، أي احتكار سوق المعلومات والنشر والبث التلفزيوني والإذاعي.
الاتفاقية هي آخر مرحلة في استراتيجية التحكم في معلومات العالم التي يعدّ لها عمالقة التواصل الاجتماعي منذ بدأت نداءات من الساسة بإخضاع الإنترنت ومنصات التواصل لقوانين الحكومات.
هذه القوانين، مهما حاولوا تبريرها، بأغراض تبدو في ظاهرها نبيلة، هي رقابة على حرية التعبير، والتحكم في مصادر المعلومات وبثها.
المحافظة على استقلالية السلطة الرابعة تعتمد على تعدد المنابر الصحافية ووسائل التعبير؛ ومن دون الحفاظ على قدرتها المالية وبقاء الصحافيين من المدرسة الكلاسيكية، لن يقدَّر للصحافة البقاء.
وسائل النشر الرقمية تعتمد على فيضان أخبار بأقل التكاليف؛ ولذا فهي تتخلص من أصحاب الخبرة من المدرسة الكلاسيكية وتوظِّف شباباً قليلي الخبرة نشأوا في بيئة «غوغل» و«فيسبوك» همّهم الوصول قبل الآخرين إلى جمهور «فيسبوك» قبل جودة المضمون ولا يفهمون مسؤوليتهم التاريخية كسلطة رابعة.
الاتفاق الأخير يمكّن عمالقة النشر من ابتلاع الصغار ومستقبلاً بعد احتكار السوق يتفقون مع وحش التواصل الاجتماعي على الطرف الأضعف: الصحافة المستقلة والصحافيين التقليديين.
المرحلة الأولى في استراتيجية «غوغل» و«فيسبوك» كانت في الخريف الماضي، بجسّ النبض بشأن قوانين تنظيم دور وسائل التواصل الاجتماعي.
بدأت «غوغل» المرحلة بالتفاوض مع دور النشر ومؤسسات صحافية كبرى وتخصيص مليار دولار مقابل إعادة بث وتدوير فقرات اختارها محرك البحث (راجع مقالنا «الثرثرة مصدر أخبار 32% من الناس» في عدد الأحد 4 أكتوبر/ تشرين الأول 2020).
المرحلة الثانية كانت إظهار العضلات وافتعال معارك لإظهار سطوتها في السوق، وهي مرحلة أيضاً شملت سياسة «فرِّق تَسُد»، وتزامنت مع سباق الانتخابات الأميركية التي تدخلت فيها بمنع «فيسبوك» والصفحات الموالية للرئيس الجمهوري دونالد ترمب، بحجة منع الأخبار المزيفة. بلغت هذه المرحلة أوجها بشطب حساب «تويتر» لرئيس الولايات المتحدة، ومنعه من «فيسبوك»، وتمهيداً سبقها مرحلة دعم تقليعات جديدة تروّجها التيارات الليبرالية اليسارية. ومثل أي صفقة سياسية أو تجارية، فإن الأهداف المعلنة ليست بالضرورة حقيقية، فالغرض من استمالة التيار الليبرالي اليساري المعادي لترمب الذي يتّبع تقليعات كالبيئة، أن الغالبية العظمي من هؤلاء الملايين من صغار السن، أي استمالة مستخدمي المستقبل المنظور وبعيد الأجل.
وتبعتها مرحلة المعركة، برصيد من المرحلة السابقة، وهو جيش من ملايين المؤيدين لمواقف منع منصات التعبير ممن شيطنهم التيار الليبرالي كالرئيس ترمب، وتقسيم مستخدمي التواصل الاجتماعي إلى لائحتين: بيضاء وسوداء.
وتبعها فوراً إطلاق النيران في معركة افتعلوها مع البرلمان الأسترالي المنتخَب، بصاروخ حجب «فيسبوك» عن الشعب الأسترالي بأكمله.
والنتيجة؟
التوصل إلى حل وسط أجبر نواب البرلمان الأسترالي على تعديل مشروع القانون المنتظَر دخوله حيز التنفيذ خلال أيام بتوقيع الملكة إليزابيث الثانية عليه، لأنها أيضاً ملكة أستراليا. التعديل يشترط على الحكومة منح المنصات الرقمية كـ«غوغل» و«فيسبوك» شهرين قبل أي تعديل في اللوائح المنظِّمة لنشاطها، مع ضرورة أن تأخذ الحكومة في الاعتبار «مدى مساهمة المنصات الرقمية في دعم الصحافة والنشر وصناعة المعلومات في أستراليا من خلال اتفاقاتهم التجارية مع هذه المؤسسات»، ولذا كان التلويح بجزرة المليار دولار قبل استعمال العصا مع الرئيس ترمب ومع الأستراليين.
القانون الأسترالي – الذي سيكون نموذجاً ومسطرة قياس لقوانين بلدان الديمقراطيات البرلمانية - لا يجبر هذه المنصات أو دور النشر التي تتفق معها على نشر تفاصيل وبنود الاتفاق، وهو ما يثير قلق الصحافيين. ما يزيد حدة القلق أن المفاوضات كانت تجري في الخفاء بين مجموعة ميردوخ وبين «غوغل» (وبالطبع سيتبعها «فيسبوك» وبقية هذا الكارتيل الذي لم يسبق له مثيل)، وتم التوصل للاتفاق وتوقيعه قبل أن تصدق الملكة إليزابيث على القانون، أي عندما ينفّذ القانون (مع شرط شهرين مقدماً) ستجد الحكومة نفسها أمام الأمر الواقع، وهي مساهمة منصات التواصل الاجتماعي و«غوغل» في دعم الصناعة المعنية، حسب الاتفاق مع شركة «نيوز كوربوريشن» القابضة لشركات تمتلك أكبر عدد من صحف ومحطات البث في أستراليا وأكثرها توزيعاً.
والسؤال المنطقي: هل تستطيع الصحف وشبكات البث المنافسة لمجموعة ميردوخ، كـ«الديلي ميرور» ومؤسسة التلفزيون المستقل «آي تي في»، وصحف كـ«الديلي تلغراف» ومجموعة «إكسبرس» في بريطانيا، والصحف الكبرى الأميركية، تجاهل «غوغل» و«فيسبوك» ورفض توقيع اتفاقيات تجارية على غرار الاتفاقية التي وقّعها المستر ميردوخ؟