حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

«سلاح الموقف»... لاستعادة الدولة!

اليوم الرابع من مارس (آذار) يكون قد انقضى الشهر السابع على جريمة تفجير مرفأ بيروت وتهديم ثلث العاصمة اللبنانية. وحتى تاريخه ليس في التحقيق العدلي أي شيء رسمي معلن. السلطة السياسية متمسكة بـ«الحصانات»، تدخلت ونجحت في الانقلاب على منحى التحقيق الذي رفض حصر المسؤولية بإهمال أو أخطاء إدارية، وأعلنت براءة السياسيين الذين أظهرت الاستنطاقات الأولية «وجود شبهات جدية» عليهم! فيما قرر «حزب الله»، المهيمن على أرصفة المرفأ والعنابر، أن التحقيق التقني الذي وضعته الجهات العسكرية انتهى وليس على القاضي إلا إعلانه وطي الموضوع! واستجابت محكمة التمييز إلى ما سمي «الارتياب المشروع»، فتم سحب الملف من بين أيدي قاضي التحقيق العدلي صوان، ليُستبدل به الرئيس البيطار الذي باشر درس الملف، وفترة الدراسة هذه ستتراوح بين أسبوعين وأربعة أسابيع وكل شيء مجمد.
يبدو أن ما كان قد ذهب إليه القاضي صوان نجح في الإمساك بطرف خيط أساسي، ينطلق من التأكيد على مسؤولية سياسيين وأمنيين على أعلى مستوى، وتوضحت الصورة أكثر مع الاستنابات بحق 3 مواطنين من التابعية السورية، توفرت الأدلة بأنهم أصحاب شحنة النيترات القاتلة. وإذا ما أضفنا إلى ذلك ما رشح بشأن شحن كميات كبيرة من «نيترات الأمونيوم» إلى النظام السوري ليستخدمها في البراميل التي هدمت مدن سوريا على رؤوس سكانها، يبرز من هي الجهة المستفيدة من الاستباحة المتعددة الأوجه التي يعيش لبنان في ظلها، وتالياً الارتباطات القائمة بين جهات متعددة بهذه القضية الخطيرة. وكان يتبلور من خلال هذا المنحى أن التفجير الهيولي في الرابع من أغسطس (آب) الماضي هو لحظة الذروة في جريمة كبرى، بدأت أول معالمها مع وصول شحنة الموت، لذلك طالت الشبهات الداخلية كل من كان في موقع المسؤولية السياسية والأمنية ما بين عام 2013 وعام 2020 فهم أقله «أخلّوا بالواجبات المترتبة عليهم».
كان يمكن للتحقيق أن يُستكمل وربما يكشف كل ما خفي، وبينها ملابسات جرائم القتل الخطيرة التي تلت التفجير، خصوصاً إذا ما توفرت للتحقيق المساعدة الخارجية، وعلى سبيل المثال، من التحقيق الفرنسي المفتوح، لأن هناك ضحيتين من فرنسا، كما أن العديد من الجرحى من هم في عداد «اليونيفيل». لكن في أوضاع لبنان لم يكن سهلاً التوقع بأن ما سيُعرف في التحقيق سيُعلن. هذا الأمر لفت الانتباه إليه النقيب السابق للمحامين رشيد درباس الذي قال بصعوبة الوصول إلى الحقيقة، عازياً الأمر إلى غياب وحدانية القرار السياسي، نتيجة التأثير الذي تمارسه «قوى الأمر الواقع»، أي «حزب الله»! كل ذلك كان يهدد بأنه رغم الضغط الشعبي لمنع تضييع الحقيقة وحجب العدالة فإن سقف التحقيق قد يستمر منخفضاً!
وحتى لا تصل الأمور إلى ما يشبه وضع «العقدة في المنشار» كانت الهرطقة القانونية والسياسية في قرار إبعاد القاضي صوان! ما أعاد إلى الأذهان إصرار منظومة الحكم على إبقاء القضاء مستتبعاً ومقيداً، لا بل مخطوفاً، وأن البلد لا سقف له ومستباح الحدود والكرامة، والقرار الفعلي ممسوك من الدويلة التي تتكئ على بندقيتها منظومةُ الفساد المتحكمة، وبالتالي ممنوع بلوغ الحقيقة والعدالة!
في يوم لبنان الذي احتضنته بكركي في السابع والعشرين من فبراير (شباط)، وضع البطريرك الراعي الإصبع على الجرح فشهر «سلاح الموقف» عندما أعلن بوضوح: «إننا نواجه حالة انقلابية»، ليطالب بالعودة إلى الحياد وبمؤتمر دولي ينطلق من مرجعية وثيقة الوفاق الوطني والقرارات الدولية، لدرء الأخطار المحدقة بالحدود والكيان، محذراً من خطر «وجود دولتين في دولة واحدة، ووجود جيشين أو جيوش في دولة واحدة، وشعوب في وطن واحد»! ومشدداً على أن المقاومة يجب أن تقوي الدولة الحامية لحقوق الجميع وليس العكس!
في العمق عندما اختار البطريرك الراعي تجاهل الرئيس عون، كان يرفع الغطاء عنه، كما كان في كلِّ ما طرح حازماً في رفض مخطط توظيف انهيار البلد في خدمة مشروع التوريث، وما رتب من أثمان! كونه عجّل من وتيرة الانهيارات والاستباحات وبدأت تبرز معالم تغيير في العادات والتقاليد وكل النسيج الذي جمع أهل هذه البلاد قروناً طويلة، وتسببت على الدوام في موجات هجرة طالت كما في هذه الأيام الشباب والكفاءات. كذلك لم يفت الخطاب - البرنامج، رفض المنحى الذي يدعو اللبنانيين إلى التسليم لمشيئة المنظومة الفاسدة، وأيضاً أبعاد سياسة «ربط النزاع» التي يتبعها الحريري مع «حزب الله»، وإلى أين يقود ذلك مع غض النظر عن الاستتباع للخارج واعتباره قدراً لا رد له، لأنه يؤمن لصاحبه حصة في السلطة ومن الغنيمة!
كل المرارات التي تعرض لها المواطن اللبناني منذ التسوية الرئاسية في عام 2016، تؤكد أن لا إنقاذ للبنان الكيان والدولة، وأن لا استعادة لحقوق المواطنين إلا باستعادة الدولة المخطوفة. وأن حجر الرحى لبدء مسار انتشال البلد من أزماته، يفترض استرجاع هيبة الدولة ومكانتها، والأمر مرتبط بأن تعود الدولة، دولة عادية، تحتكر العنف مقابل الأمان والاستقرار لمواطنيها والمساواة فيما بينهم. هذا المحور الدقيق والحساس لم تفت حساسيته البرنامج البطريركي، الذي كان قد طالب بالمعالجة وفق استراتيجية دفاعية سليمة تولي الأولوية لبناء القدرات العسكرية الوطنية، التي تحمي الحدود وتعيد الأمان والاستقرار.
المنطلق يقول إنه في مواجهة الإفلاس والانهيارات المتعددة الأوجه الناجمة عن النهب والإفقار ولضمان حدٍ من الحقوق والعدالة، وحتى المساواة في توزيع اللقاح لحماية الأرواح... إلخ، فكيف استحقاق بحجم الإصلاح مستقبلاً، لا يمكن لأي سلطة أن تحمي مواطنيها وتضمن لهم حقوقهم وحرياتهم، مع وجود ميليشيا قادرة على ممارسة القوة بوجه خطوات السلطة عندما ترتئي أن مصالحها الخاصة تقتضي ذلك! هذا حال لبنان مع «حزب الله» الذي أقام مؤسساته المستقلة واقتصاده الموازي بوضع اليد على جزء غير قليل من العائدات العامة، بعدما جاهر مراراً بالحصول على احتياجاته من المال الإيراني الطاهر! لكن «حزب الله» ليس جزيرة معزولة، فالخراب وهو شريك رئيسي في دفع البلد إليه، بلغ «بيئته الحاضنة»!
رفض المضي في تعريض الكيان للخطر، ورفض المس بالحدود والسيادة، حتى يكون ممكناً، هو مسار يتطلب الكثير من التفاهمات الداخلية أولاً ثم مع الخارج. لكن مع أهمية الطرح وهو هدف يجمع الأكثرية، فإن الواقع يشي بأنه الآن غير متيسر، مع العلم بأن ردود فعل إيجابية واسعة تم تسجيلها وجدت في المطروح فرصة تنطلق من سلاح الموقف لتتحول تدريجياً إلى مبادرة سلمية شاملة لإنقاذ لبنان. هذا المنحى أثار غيظ «حزب الله» وصخبه، لأن أولويته تعطيل البلد وارتهانه في خدمة ما ترسمه طهران للبنان كما لكل الإقليم، فانطلقت أبواق التخوين وصولاً إلى حملات التهديد حتى بحرب أهلية، ما فضح قلقاً دفيناً لديه، من أن حالة ما مستجدة داخل البيئة المؤيدة للنظام الإيراني، كانت الوقائع الميدانية منذ الأيام الأولى لثورة «17 تشرين» قد سلطت الضوء عليها! وسيكون من الصعب مستقبلاً إيجاد الوصفات التي تغطي الثقوب المتسعة.