توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

حرية الاختيار وجودة الحياة

«برنامج جودة الحياة 2020» واحد من 12 مساراً استراتيجياً لتنفيذ «رؤية المملكة 2030». وهو يستهدف - كما في وثيقته الرئيسية - جعل المملكة «مكاناً أفضل للعيش» من خلال تطوير الخدمات العامة الأساسية، والمرافق الترفيهية والثقافية، على نحو يزيد من رضا السكان عن حياتهم وصولاً إلى تحقيق السعادة.
أقترح على القراء الأعزاء مراجعة وثيقة البرنامج المتاحة على الموقع الإلكتروني لـ«رؤية المملكة»، فهي تحوي الكثير مما يجدر معرفته ومناقشته. وقد خصصت هذه المقالة لجانب أظنه يشكل خلفية مهمة للتفكير في البرنامج وتطبيقاته.
غرض البرنامج هو تحقيق «رضا العامة» من خلال تمكين الأفراد من اختيار نمط العيش الذي يلائمهم. هذا يعني بالضرورة توفر خيارات معيشية متعددة، والضمان القانوني لحرية الفرد في اختيار ما يراه طريقاً لتحقيق سعادته.
يذكرنا هذا بجدل قديم جداً، لكنه يتجدد باستمرار، جدل يتناول مفهوم السعادة والرضا. وأبدأ هنا بقول مشهور ينسب للإمام الشافعي: «رضا الناس غاية لا تدرك». ومضمونه راسخ في ثقافتنا العامة، بل هو أقرب إلى المسلمات التي لا يجادل في صحتها أحد (مع أنه في اعتقادي رأي ضعيف). وقد وجدت أنَّ التسليم بهذا القول قاد إلى التباس شديد بين مفهومين للرضا، أحدهما مطلب نسبي وهو رضا الجمهور عن الحاكم، أو عن شخص بعينه، والثاني مطلب معياري هو رضا الناس عن حياتهم. وبسبب هذا الالتباس، وبالنظر لرسوخ تلك المقولة، فقد تحولت إلى مبرر عند أهل الحكم في الكثير من بلدان العرب، لعدم الاكتراث برأي الناس (لأنَّ رضاهم مستحيل).
إنَّ اتفاق جميع الناس على الحكومة غير مطلوب، وهذا معروف في كل المجتمعات. ولهذا توصلوا إلى التصويت والانتخاب، واعتمدوا موقف الأكثرية معياراً لحسم الخلاف والاختلاف.
لكن - وكما أسلفت - فإنَّ الرضا المقصود في «برنامج جودة الحياة» مختلف عن هذا. فالمقصود هنا هو رضا الناس عن حياتهم، وهذا ناتج عن الأمان المادي والاطمئنان للمستقبل.
ويهمني إضافة عنصر «الأمان النفسي» الذي أراه ضرورياً لربط الأمان المادي بمفهوم السعادة، الذي يصنف عند الفلاسفة كهدف أسمى لكل نظام اجتماعي.
يتولَّد الأمان النفسي (ومن ثم الشعور بالسعادة) كنتيجة لقناعة الفرد بتوفر إمكانية فعلية لتحقيق ذاته. أي اعتقاده بأنَّ البنية الاجتماعية والنظام القانوني يساعدانه، أو على الأقل يسمحان له بالسعي إلى نموذج السعادة الذي يلائمه، أو نموذج العيش الذي يعتبره قريناً للسعادة، وهذا ما نسميه حريةَ الاختيار.
كان المفكر الإيطالي المعروف نيكولو مكيافيلي، قد اقترح مفهوماً فريداً للحرية، خلاصته أنَّ «الناس يريدون الحرية لأنَّها تمنحهم الأمان». الحرية هنا تعني ببساطة أن يكون القانون في صفّك، حين يتدخَّل الناس في حياتك أو يستخدمون قوتهم المالية أو نفوذهم الاجتماعي أو مناصبهم، في منعك من العيش حسب اختيارك. أنت إذن آمن من مزاحمة الآخرين، لأنَّ القانون يحمي حريتك في الاختيار.
في اعتقادي أنَّ مجتمعنا (والمجتمع العربي ككل) مطالبٌ بترسيخ قيمة الحرية في هذا المعنى على وجه الخصوص؛ أعني حرية كل فرد في اختيار هدف حياته ونمط العيش الذي يحقق سعادته، وأن يعتبر هذا حقاً للفرد يحميه القانون.
لا يتوجب على الحكومة أن تضمن السعادة للناس، لكن يجب عليها توفير الظرف القانوني والمؤسسي الذي يسمح للناس بالسعي نحو سعادتهم الخاصة، التي قد تكون مختلفة عن تلك التي يسعى إليها الشيخ أو القاضي أو الوزير.