نوح سميث
كاتب في «بلومبيرغ»
TT

شيخوخة أميركا والنمو السكاني

من شأن فكرة السياسة السكانية أن تبدو غريبة على كثير من المواطنين الأميركيين. ولكن ذلك لمجرد أنّ الأميركيين كانوا من الشعوب المحظوظة للغاية لفترة طويلة من الزمن، إذ جمعت الولايات المتحدة بين الخصوبة القوية بصورة استثنائية، والثراء، مع مستويات مرتفعة من الهجرة. غير أنَّ أولى تلك المزايا في طريقها للتلاشي بوتيرة سريعة، والميزة الثانية مهددة للغاية.
في عقد التسعينات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حازت الولايات المتحدة ميزة الخصوبة، مقارنة بالدول النظيرة في العالم الثري. ولكن بدأت هذه الميزة المهمة في التلاشي منذ واقعة الركود العظيم في عام 2008.
ويرجع جزء كبير من ذلك إلى الانخفاض الهائل في معدلات الخصوبة بين المواطنين الأميركيين من أصول إسبانية، والذين بلغوا حالياً مستوى أدنى من معدل الإحلال البالغ 2.1 طفل لكل امرأة. ولا يرجع ذلك فقط إلى الانخفاض الحاد في هجرة ذوي الأصول الإسبانية (حيث يميل المهاجرون إلى إنجاب مزيد من الأطفال)، وإنما بسبب التغير الواضح في الأعراف والقيم بين جموع السكان من ذوي الأصول الإسبانية. وكان هذا يجري قبل انتشار فيروس كورونا المستجد، والذي أسفر عن انخفاض معدلات المواليد بصورة كبيرة. ولا يعرف أحد إلى أي مدى سوف يستمر الانخفاض الأخير في معدلات المواليد.
وانخفضت كذلك معدلات الهجرة، ويشعر زميلي جستن فوكس بالتفاؤل، مشيراً إلى أن عدد الأشخاص الذين صاروا مقيمين بصورة دائمة في الولايات المتحدة تراجع إبان فترة رئاسة دونالد ترمب الأخيرة، وبسبب الوباء الراهن. بيد أن عدد التأشيرات الجديدة الصادرة من الولايات المتحدة قد انخفض إلى النصف تقريباً خلال عام 2020 الماضي.
ولم يكن فيروس كورونا المستجد هو السبب في ذلك التراجع، إذ كانت تأشيرات الهجرة في تأخر مستمر بالفعل قبل عام 2020 الماضي.
وإذا ما قُدّر لذلك التراجعِ الاستمرارُ خلال الفترة المقبلة، فسوف يؤدي إلى الإقلال من أعداد الأشخاص الذين سوف ينالون حق الإقامة الدائمة في الولايات المتحدة في المستقبل.
مع انخفاض معدلات الخصوبة والإحلال، مع تراجع معدلات الهجرة، فإن الولايات المتحدة تواجه مستقبلاً قاتم الآفاق. كانت نسبة الإعالة العمرية (عدد كبار السن في السكان كنسبة مئوية من البالغين في سن العمل) في ارتفاع مطرد قبل رئاسة دونالد ترمب وقبل انتشار الوباء، كما أنه من شأن التوجهات الأخيرة أن تدفعها إلى مزيد من الارتفاع.
بطبيعة الحال، سوف يستغرق الأمر بعض الوقت حتى تندرج الولايات المتحدة في نفس الفئة مع اليابان؛ حيث اجتمعت معدلات العمر الطويلة، مع انخفاض معدلات الخصوبة المزمنة، للخروج بالمجتمع الأكثر شيخوخة على مستوى العالم. ولكن ربما لا يمر وقت طويل قبل أن تشرع الولايات المتحدة في الشعور بألم شيخوخة سكان البلاد، ولا سيما مع النمو الاقتصادي البطيء، والمطالبات الكبيرة على عاتق الحكومة من أنظمة الرعاية الصحية والمعاشات التقاعدية، فضلاً عن مزيد من الموارد والوقت المخصصين لرعاية كبار السن.
لا تعتبر الشيخوخة بمثابة عقوبة الإعدام الاقتصادية، إذ يمكن للبلدان أن تفعل كثيراً من الأشياء للحد من قوة التحديات التي تطرحها مشكلة الشيخوخة. يمكنهم استخدام مزيد من الأتمتة في تعويض نقص العمالة. ويمكنهم تشجيع الناس على مواصلة العمل لفترات أطول من الزمن. وفي البلدان التي تعاني من فجوة المشاركة بين الجنسين في القوى العاملة، يمكن للحكومات تشجيع مزيد من النساء على الخروج للعمل تماماً، كما فعلت اليابان بنجاح كبير في عام 2010. وربما تكون الولايات المتحدة على مشارف مواجهة فجوة المشاركة بين الجنسين أيضاً، ولذلك هناك بعض الفرص السانحة في البلاد.
بيد أن هذه الإجراءات تذهب إلى آماد بعيدة فقط. ففي غالب الأحيان تكون تقنيات الأتمتة من الوسائل المكملة لجهود العاملين من البشر، بدلاً من أن تكون عوضاً عنهم بالكلية. وبالتالي، هناك حد واضح لعدد الأفراد الذين يمكن استبدالهم بالآلات والماكينات في بيئات الأعمال. وينسحب المفهوم نفسه على حدود دفع كبار السن والمتسربين من القوى العاملة على العمل بصورة أكبر. وإذا كانت الولايات المتحدة ترغب فعلاً في تفادي تحول المجتمع الأميركي إلى مجتمع ثري جديد يعاني من حالة الركود الرمادية المشار إليها سلفاً، يتعيَّن عليها جذب مزيد من الشباب إلى البلاد.
يعد تشجيع الهجرة من أهم مكونات أي استراتيجية سكانية معتبرة. وفي أعقاب 4 سنوات عجاف من الخطب والسياسات المناهضة للهجرات في البلاد، ينبغي على قادة الولايات المتحدة بثّ خطاب عام مؤيد للمهاجرين على غرار خطاب الرئيس الراحل رونالد ريغان. دعونا نبلغ الجميع بأن أبواب الولايات المتحدة مفتوحة على مصراعيها، وأنها ترحب بالمهاجرين من شعوب العالم كافة. علاوة على ذلك، ينبغي على الحكومة الأميركية إنشاء برامج جديدة لتوظيف أنواع المهاجرين الجدد الذين سوف يوسعون القاعدة الضريبية في البلاد أكثر من غيرهم.
ومن أفضل الأفكار في ذلك إنشاء برنامج جديد يماثل برنامج العمالة الماهرة الفيدرالية في كندا، والسماح للولايات والمدن الأميركية برعاية المهاجرين في الحصول على بطاقات الإقامة الدائمة بغرض العمل، (ما يشبه الطريقة المعمول بها في كندا راهناً).
ثم لدينا مشكلة الخصوبة. سعى كثير من البلدان الثرية إلى رفع معدلات الخصوبة بين سكانها، ولكن من دون جدوى تُذكر في كثير من الأحيان. بيد أن الخبير الاقتصادي ليمان ستون، وبالنظر إلى مجموعة واسعة من الدراسات المعنية بالأمر، خلص إلى أن حضّ الناس على إنجاب مزيد من الأطفال له تأثير متواضع على معدلات المواليد. لذا، من الممكن رفع معدلات الخصوبة الشيء القليل.
من شأن «منافع الأطفال» التي يقترحها حالياً الرئيس بايدن رفقة السيناتور ميت رومني وآخرين أن تكون هي الحافز الذي يمنح معدلات الخصوبة في الولايات المتحدة دفعة مناسبة. كما أنه من شأن الجهود المبذولة للإقلال من التكاليف العالية لرعاية الأطفال أن تخفف كذلك من التكلفة المالية والزمنية لإنجاب الأطفال. ولا يمكننا توقع حدوث المعجزات من وراء هذه التدابير – فإن طفرة المواليد السابقة لن تتكرر مرة أخرى – ولكنها ربما تؤدي إلى رفع معدلات الخصوبة إلى الأعلى قليلاً من مستوى الإحلال المستدام. ولا ينبغي علينا العودة إلى نسبة 2.1 طفل من أجل استقرار السكان في البلاد – إذ يمكن للهجرة أن تفعل شيئاً من ذلك – غير أن الاستقرار عند مستوى 8.1 أو 9.1 طفل بدلاً من الانخفاض إلى 1.5 طفل، كما فعل كثير من البلدان الثرية، سوف يكون إنجازاً كبيراً.
والأهم من ذلك، تحتاج الولايات المتحدة ببساطة إلى تغيير طريقة التفكير. لم يكن الاستقرار السكاني من الأمور التي ينبغي علينا القلق بشأنها من قبل. ولكن الآن، ومن حسن الحظ، صار عدد من الكتّاب، من أمثال مات إيغليسياس، يدعو بقوة إلى زيادة النمو السكاني. ونأمل أن تنال هذه المشكلة مزيداً من العناية والاهتمام المطلوب خلال السنوات القليلة المقبلة.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»