د. عبد العزيز حمد العويشق
الأمين العام المساعد للشؤون السياسية وشؤون المفاوضات في مجلس التعاون الخليجي.
TT

30 عاماً تفصل بين قمة نفوذ أميركا وشللها

كتبت قبل فترة عن نجاحات إدارة الرئيس ترمب في معالجة عدد من القضايا، مثل تصفية قاسم سليماني، وإيقاف تحرشات إيران بالملاحة الدولية في الخليج العربي، وإقناع الحلفاء بالحاجة إلى إعادة التفاوض بشأن الملف النووي، ونجاحها في التوسط بين روسيا ومنظمة «أوبك» لإعادة الاستقرار في أسواق النفط، ودعم الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) لعدد من الدول للتغلب على التداعيات الاقتصادية لجائحة «كورونا».
وأكتب اليوم عن أمثلة الضعف، بل الفشل أحياناً، التي ورثها بايدن. فمع أهمية إنجازات الإدارتين السابقتين، فإن دور أميركا القيادي قد انحسر مؤخراً إلى أدنى مستوياته منذ عقود، ما سيجعل استعادة ذلك الدور أمراً عسيراً على بايدن، ولكنه ليس مستحيلاً.
منذ ثلاثين عاماً، كانت قوة أميركا في قمتها، عسكرياً وسياسياً واقتصادياً. فعلى سبيل المثال، في يناير (كانون الثاني) 1991، قادت الولايات المتحدة حرب تحرير الكويت، وبها محت ذكرى هزيمتها في فيتنام، وتمكنت من حشد تحالف دولي من أكثر من ثلاثين دولة للمشاركة في الحرب. وتمكنت الدبلوماسية الأميركية من إقناع مجلس الأمن، بما في ذلك الصين والاتحاد السوفياتي، بدعمها.
يروي الدبلوماسي الأميركي المخضرم ويليام بيرنز في مذكراته كيف تمكن الرئيس جورج بوش الأب، ووزير خارجيته جيمس بيكر، من تأسيس وقيادة نظام دولي جديد لم يكن لها فيه منافسون حقيقيون. وحسب قول بيرنز: «بدا التاريخ كما لو كان رهن إشارة أميركا من دون تردد». وقتها، كانت أميركا في طور كسب الحرب الباردة، فالاتحاد السوفياتي يترنح في آخر أيامه، وأوروبا وألمانيا تستعيدان وحدتهما بعد عقود من التقسيم، والولايات المتحدة هي القوة الاقتصادية الكبرى.
في 11 يناير (كانون الثاني)، اختار الرئيس بايدن ويليام بيرنز ليكون مديراً لوكالة الاستخبارات المركزية، وهو اختيار موفق في الغالب، إلا أن بيرنز سيجد أنه يتعامل مع وضع أكثر صعوبة وأقل انصياعاً إلى رغبات أميركا مما كانت عليه الأمور في عام 1991.
ولا يستطيع من شاهد أحداث 6 يناير (كانون الثاني) إلا أن يلاحظ ما وصلت إليه الأمور في واشنطن التي بدت محاصرة من قبل اليمين المتطرف، في حين ظهرت قوات الأمن وهي لا تكاد تستطيع تأمين مؤسسات الدولة. وبالنسبة للمراقب، خارج الولايات المتحدة، فإن اقتحام مقر الكونغرس، واختباء ممثلي الشعب عن المتظاهرين، يمثلان الهوة التي وصلت إليها أميركا، حين عجزت عن توفير الحماية للنواب وهم منخرطون في إقرار نتائج الانتخابات الرئاسية، في عملية دستورية أخرتها مجموعة يمينية مسلحة لم تتمكن الشرطة من اعتراضها.
وغني عن القول أن الأحداث التي مرت بها واشنطن منذ انتخابات 3 نوفمبر (تشرين الثاني) قد أضرَّت بمكانة أميركا في العالم، ودفعت خصومها إلى التحرُّك لجس نبض الإدارة الجديدة. فعلى سبيل المثال، استأنفت إيران تحرشها بالملاحة الدولية في الخليج، باقتياد سفينة كورية إلى شواطئها، وقام وكلاؤها بتكثيف نشاطهم في المنطقة، إذ قام الحوثيون بالهجوم على مطار عدن لحظة وصول الحكومة اليمنية الجديدة إليه. ومع أن الوزراء نجوا، فإن الهجوم الصاروخي الثلاثي أوقع عشرات القتلى والجرحى من المسافرين الأبرياء.
وفي الوقت نفسه، ضاعفت إيران من عمليات خرق الاتفاق النووي، فأعلنت يوم 13 يناير (كانون الثاني) عزمها على إنتاج معدن اليورانيوم الذي يُستخدم وقوداً للأغراض العسكرية، في انتهاك واضح لالتزاماتها في الاتفاق. وجاء ذلك الإعلان بعد أيام فقط من استئنافها لتخصيب اليورانيوم في منشأة (فوردو) إلى نسبة 20 في المائة، وهي أضعاف ما يسمح به الاتفاق، مما دفع وزراء خارجية فرنسا وألمانيا وبريطانيا إلى إدانة هذه الانتهاكات، وقولهم في بيان لهم الأسبوع الماضي: «إن إنتاج معدن اليورانيوم يمكن أن تكون له استخدامات عسكرية خطيرة». وقال وزير خارجية فرنسا، لودريان: «إن إيران - وأقول ذلك بكل وضوح - قد شرعت في عملية الحصول على قدرات عسكرية نووية».
وفي العراق، ضاعفت الميليشيات الموالية لإيران محاولاتها لزعزعة الاستقرار، وتقوية قبضة طهران على الأوضاع خلال الأشهر التي تسبق الانتخابات البرلمانية المقبلة. ومما زاد الأمور سوءاً البطء في إعادة تأهيل المناطق التي تم تحريرها من «داعش»، فالمبالغ التي تم التعهد بها في مؤتمر إعادة الإعمار الذي عقد في الكويت في عام 2018 لم يُصرف منها إلا النزر اليسير، مما سمح للتنظيم باستعادة بعض قوته. وهناك أسباب كثيرة لهذا التأخير، ولكن تخلي الولايات المتحدة عن قيادة هذا الملف كان أحدها.
وبالمثل، تراجع دور الولايات المتحدة في سوريا ولبنان وليبيا، متخلية عن شركائها أو متقلبة في دعمها لهم، تاركة المجال للميليشيات الطائفية التي تجندها وتدربها وتمولها إيران.
أما في شرق المتوسط، فلم تتمكن الولايات المتحدة من وضع حد للنزاع بين حليفيها تركيا واليونان، خلافاً لما كانت عليه الأمور في السابق، حين كان حلفاء أميركا وشركاؤها لا يتأخرون في الاستجابة إلى نصائحها وطلباتها.
أما قضية فلسطين، فقد ازدادت تعقيداً بسبب الإجراءات الأُحادية التي قامت بها إسرائيل، بموافقة أميركا أو تشجيعها، مما سيجعل حلها أكثر صعوبة، ويهدد أمن المنطقة واستقرارها. في المقابل، في عام 1991، يصف بيرنز في مذكراته كيف جلس الفلسطينيون والإسرائيليون جنباً إلى جنب «لأننا طلبنا منهم ذلك، في وقت كانت فيه طلبات أميركا لا تُهمل، وقت الصدارة الأميركية بلا منافس».
خلال الثلاثين عاماً الماضية، اضمحلّ دور أميركا لأسباب كثيرة، بعضها من صنع يدها، إلى أن انحدرت إلى المستوى الذي رأيناه هذا الشهر، حينما قام اليمين المتطرف بشن هجوم على إحدى أهم مؤسساتها الدستورية.
ولمعالجة الصورة المهتزة لأميركا عالمياً، تحتاج الإدارة الجديدة إلى تواصل من نوع آخر، لطمأنة حلفائها وشركائها، وردع خصومها. في عام 1991، نجحت أميركا لأنها اعتمدت أسلوب «الدبلوماسية المدعومة بالقوة» للحفاظ على السلام والأمن، وهي تحتاج اليوم للأداة نفسها وهي تواجه تحديات على رأسها: التعامل مع جائحة «كورونا»، والركود الاقتصادي.