خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

السلام عليكم أوباما... ثم بدأ الضرب

أكثر من عشر سنوات مرت عليّ في لندن قبل 25 يناير (كانون الثاني) 2011، أعمل بالأخبار، ولم تكن مصر موجودة أبداً في صدارتها. كان وجود اسمها حدثاً نادراً مرتبطاً بغرق عبارة أو بمنشأ إرهابي أو بحريق في قطار. وعلى ذلك فمجرد وجود مصر في صدارة نشرات الأخبار في ذلك التاريخ أسعدني. ما أتعس الإنسان!
ربما أسقطت على غيابها إحساسي الشخصي بانعدام الوجود في «البلدة الأخرى». فيها أصدرت أول كتاب لي، وترجم إلى ست لغات أجنبية. لا شيء. قبل يناير بشهر اختيرت روايتي في القائمة القصيرة لجائزة بوكر العربية. لا شيء. ماذا يفعل المرء لكي يكون موجوداً في البلدة الأخرى؟ ربما لو ارتكبت جريمة!! أو انضممت إلى تنظيم!!
وجودك مرتبط بالجزيرة الإثنية التي صنفت فيها، أو بالأدق، بعدد الخانات التي يمكن أن تملأها. لو كنت مثلاً من أقلية عرقية، فهذه خانة، لكن لو كنت من أقلية دينية - مذهبية داخل هذه الأقلية فتلك خانة أخرى، ولو كانت ميولك الجنسية تنتمي إلى أقلية ثالثة، فيا سلام. لُقطة!! كلما زاد العدد تحسنت فرصك في العمل، لأنك ستصيب للمؤسسة أكثر من عصفور بحجر واحد. أما أنت كفرد. انس الموضوع!
وأنا من النوع الشائع تماماً وسط الجزيرة التي صنفت فيها، كما أن بلدي مستقرة. باختصار: لست مستحقاً لأي نوع من الرعاية الخاصة. بالعكس، عليّ أن أتغلب على المعوقات الطبيعية لشخص يعيش في بيئة جديدة، ويعمل بالذات في مجال يعتمد على اللغة والتواصل، وأتغلب على المعوقات التمييزية (الناتجة عن سياسة التمييز الإيجابي).
كل هذا تحت شعار يبدو جميلاً، مصوغاً بعناية، اسمه «التعددية الثقافية» multiculturalism، وهو، كما سأكتشف لاحقاً، شعار انفصالي في قالب منمق. شعار يطلب من كل جماعة عرقية أن تنتخب منها من ينوب عنها ويشغل حصتها. لو كنت مختلفاً فكرياً، وفي الوقت نفسه شائعاً بيولوجياً وموروثياً، فلا مكان لك. أما أن وجود تنظيم داخل هذه الجماعة الإثنية فالغلبة له بلا جدال. سيسيطر التنظيم خطوة خطوة على كل ما يخص «المسلمين». وتضيق الخيارات أمامك حتى تنحصر في إرضاء هذا التنظيم أو تلك الشلة، لكي تكون «عنصر تمويه» موثوقاً، يعفيها من المساءلة القانونية واتهامات التمييز. وإلا فمزيد من انعدام الوجود.
لكن ما علاقة 25 يناير بهذا؟
كنت، كغيري من المغتربين، أنتظر إجازتي السنوية بفارغ الصبر لكي أزور مصر. أقضي وقتاً قليلاً مع عائلتي، في مقابل وقت كثيف مع «أصدقائي». هذه الدوائر «المنفتحة، الناقمة على (قمع الحريات)، ولا سيما حرية التعبير، كونها الدوائر المعنية بالكتابة والفنون والإنتاج الإبداعي. التي تقسم، وأنا معها، بأغلظ الأيمان أن (سلطة مبارك) وحدها المسؤولة عن (دفن الكفاءات). عن انعدام الوجود الذي أشعر به هناك، ويشعرون به هنا».
كان 25 يناير حدثاً تختلف حوله الآراء، وبالتالي فرصة مناسبة لاختبار شعارات كحرية التعبير. ومعها اكتشفنا «دوائر الأصدقاء» وشعاراتها. اكتشفنا أن نقمتها ليست قمع الأفكار، نقمتها قمع أفكارها هي. أما قمع الأفكار المخالفة لها، والاغتيال المعنوي لأصحابها، وطمس الذكر عن منتجاتهم الفكرية، فقد تفننت فيه. هم أيضاً دوائر سلطة قادرة على نفي وجودك نفياً أقسى، لأنه في ظل لغتك ومجتمعك.
جارك، بواب العمارة، وزميلك في الجامعة أو الوظيفة، كل هذه أدوات استخدمتها سلطة الإسلام السياسي لكي تحكم سطوتها على المجتمع. وهي سطوة خانقة، تملك آذان الحوائط، تفتح بابك في الصباح فتقابلها. ترافقك في المصعد. تتحرش بك في الشارع. تراقب أقوالك وأفعالك في الجامعة والمكتب. وحين تعود إلى بيتك في المساء تتفحص ما تحمله معك، وتحصي من يزورك. هي أقرب إلى رقبتك من سلطة الحكم. ولو أضافت إلى سلطتها الاجتماعية سلطة الحكم لصار ظلاماً دامساً، ولما رأى الإنسان أن ذلك حسن.
كثير من «دوائر الأصدقاء» تحالفوا مع هذه السلطة في سعيها للسيطرة الدامسة. وحين زالت في 30 يونيو (حزيران) صاروا فلولها التي تعاقب من وقفوا في وجهها. ومرة أخرى أضاء مصباح الحكمة بأثر رجعي. كان الشيخ كشك يسخر من أم كلثوم، وكانوا هم يسخرون من «كلب الست». يقتل الإسلامبولي السادات، وهم يغنون له. يصل الإسلام المتشدد إلى الحكم في إيران، فيشيعون أن «إيران يا مصر زيّنا». كيف لم أر هذا من قبل؟ السلطة السياسية قد تقمعك في صراع على السلطة. لكن هذا التحالف غير المعلن يلاحقك من المهد إلى اللحد. سباق تتابع في القمع. يتناقلون الراية من البيت إلى الغربة إلى البيت.
والخدعة؟! شعار حرية التعبير. حتى الإسلامجية يتحدثون عن حرية التعبير. لكنهم جميعاً يقصدون حريتهم هم في التعبير. وسلطتهم هم على رسم «حدود التعبير». يريدون «حرية التعبير» أداة في حربهم على السلطة. لا أكثر ولا أقل. هل يذكرك هذا بشيء آخر؟ نعم. نعم. الصوابية السياسية.
هذا شعار آخر فهمت منشأه، وقبح ما تحت واجهته البراقة، بعد ما حدث في يناير. هو قمع بديل، وأداة أخرى لتوسع نفوذ سلطة مستبدة كامنة. يقدمون به المبرر لحيازة السلطة على التفكير. كما بشعار «العدالة الاجتماعية» يقدمون المبرر لحيازة السلطة على الثروة والتحكم في توزيعها. وبـ«الطاقة الخضراء» يمتلكون السلطة على إعادة رسم خريطة النفوذ الاقتصادي. هل من عبارات جميلة أخرى سترة جند الشقاء؟
طبعاً. صورة رجل أسمر، ذي ابتسامة ساحرة، وبلاغة بلا نظير، واسم أبيه حسين، وقف في جامعة القاهرة ملقياً التحية: السلام عليكم. ثم بدأ الضرب من كل اتجاه: شكراً 25 يناير. لقد علمتينا.