د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

تحليل كلام العرب!

حيَّر متهمٌ سلطات التحقيق في أميركا بعدما أقدم على ارتكاب تفجيرات إرهابية امتدت إلى ما يربو على 19 عاماً، ولم يتمكنوا من إلقاء القبض عليه. وبعد استعانة المحققين بعلم «تحليل الحوارات» تمكنوا من وصف دقيق لخطاباته اللغوية المرسلة إلى الشرطة، حيث كان يراسلهم. فتمكنوا من تحديد سمات شخصيته ومن ثم إلقاء القبض عليه. وتحولت الحادثة إلى فيلم شهير. وكم من منبر عربي شهد «حوارات» اكتشف الناس في وقت متأخر أنها تحرّض على العنف، والإقصاء، ونبذ التعايش السلمي.
هذا العلم يسمى تحليل الحوارات (Conversation analysis) وقد أحدث نقلة نوعية. فصار بمقدور العلماء تحويل أي فيديو إلى نصوص مكتوبة يُسقطونها على قواعد دقيقة في تحليل النصوص وتحديد ملامح الشخصية، أو أبرز سماتها، وربما لاحقاً كيفية التعامل معها. وقد رأيت بنفسي هذه النصوص في دراسات علمية. وأسهم العلم في حل مشكلات اجتماعية ومهنية وطبية عديدة. فصار يمكن تحليل كلام الطفل لمعرفة مشكلات النطق لديه مثلاً.
وفي العلم نفسه صار في استطاعة العلماء تحليل الخطابات العامة (discourse analysis) كخطابات السياسيين الموجّهة إلى الجمهور. ومنها تحليل خطابات الرئيس الأميركي ترمب، حيث وجدوا أنه يستخدم مفردات مبسطة جداً يستخدمها طلبة في مرحلة السادس ابتدائي. وكشفوا عن سماته في وقت مبكر وجوانب من شخصيته، خصوصاً حينما كان يرتجل كلماته ارتجالاً. وكذلك أوباما، وغيره من الساسة في بريطانيا.
واللطيف في هذا العلم أن العلماء يمكن أن يفرغوا نقاشنا «العقيم» إلى نصوص مكتوبة يستنبطون من تفاصيلها ووقفاتها، ومفرداتها، واستهلالاتها وخواتيمها، ما يكشف لنا مكمن الخلل في طريقة النقاش. مشكلتنا في العالم العربي أننا أمة شفهية لا يشعر كثير منّا بالحاجة إلى أن يعلّمه أحد كيف يتحدث، ومتى، ومع مَن، ومتى يتوجب عليه أن يتوقف عن الكلام الجارح أو الفارغ. كل تلك الأخطاء المجتمعية نرتكبها على مدار الساعة، لأننا لا ندرك خطورة الكلمة، وأنها مثل سائر السلوكيات تحتاج إلى وقفة يومية للتقييم والتأمل، وفتح صفحة جديدة من العلاقات بناء على أسس الحوار الموضوعي الذي يحترم الآخر ويستوعب اللحظات التي تتسبب في الخروج عن جادة الحوار العقلاني إلى الملاسنات أو الجدال العقيم. ولهذا كتبت ثلاثة كتب في فن الإنصات والحوار أكثرها ارتباطاً بهذه المعضلة كتاب «لا تقاطعني!».
ونحن بحاجة إلى بعثات إلى أفضل الجامعات لتخريج ثلة من المتخصصين في «علم تحليل الكلام» خصوصاً بعد تزايد التراسل الإلكتروني والحوارات السطحية لشخصيات تظن أنها مهمة في المجتمع لكنها لا تسوى في مقاييس «علم الكلام» جناح بعوضة!