إميل أمين
كاتب مصري
TT

«كورونا» وعالم الضمانات الزائفة

مع تفشي الموجة الثانية من جائحة «كوفيد - 19» المستجد، والأسئلة الحائرة عن اللقاحات، بين مَن يشكك ومَن يؤكد، اكتشف العالم أن جميع الضمانات التي اتخذتها البشرية من أجل رفاهيتها مزورة، وأن كل الملاذات التي خيّل للإنسانية أنها آمنة ليست سوى ضرب من ضروب الوهم، وبان جلياً أن مجتمع العولمة الذي تنادي به أوهى من بيت العنكبوت.
ومع الهلع الذي يجتاح العالم من جديد، تيقن البشر أنهم على سفينة واحدة ضعفاء ومضطربون، وإن كانوا مدعوين لأن يجدفوا معاً ناحية برّ الأمان، وفي حاجة لتعزية بعضهم البعض.
عطب جلل أصاب الإنسانية في العقود الأخيرة، ولم تتعلم من دروس الحروب الكونية، ولم تقم وزناً لضعفها أمام أهوال الطبيعة.
تجبّر الإنسان وتكبّر، وخيّل إليه كما الحال مع فرعون، أنه سيد الكون، وجاءت «كورونا» لتقرع أبواب الأوهام، بل تحطمها على صخرة الزمن.
لم تعد هناك مساحات للروحانيات، ولا للإنسانيات، في عالم الأنوار التي تعمي، ولم تجد البشرية في الأشهر الأخيرة بداً من أن ترفع أكفّ الضراعة إلى السماء لاستمطار المراحم الإلهية.
يخبرنا إيمانويل كانط، الفيلسوف الألماني العتيد، أن أكبر هبة منحها الخالق للإنسان هي العقل الناقد، وعليه ربما كانت الجائحة فرصة غير مسبوقة لإعادة التفكير في خطوط طول وعرض البشرية المعتلة والمختلة.
لا يزال سؤال التكوين الأول حائراً، من أين جاء هذا الفيروس الشائه؟ وهل الصين حقاً هي مصدره؟ وإن كانت كذلك، فهل لها هدف ما في تصديره للعالم على النحو الدراماتيكي الذي رأيناه؟ ثم هل نحن أمام حرب بيولوجية تتسارع الخطى لإعادة ترتيب سلم القطبية العالمية؟
الأسئلة كثيرة ومثيرة، وغالباً ستبقى الإجابات طي الأضابير السرية، ولن تعرف الشعوب حقيقة ما جرى، فقط سيحصدون الدموع والألم، الموت والحسرة.
في عددها الأخير، دعت مجلة «فورين بوليسي» الأميركية الشهيرة نحو 12 مفكراً وخبيراً في مختلف مسارات ومساقات الحياة لتأمل مشهد العالم بعد «كورونا» وكيف يتوجب أن يكون.
حصاد رؤية هؤلاء وأولئك مثيرة، بل مرعبة، إذ تبين لنا قدر السوس الذي نخر في جسد بني آدم عليه السلام، ذلك أنه وفيما الجائحة تحصد الآلاف يومياً، والضحايا يقتربون من المليونين، يسعى الكبار إلى تصعيد عسكري مسلح، براً وبحراً وجواً، وخارج الكرة الأرضية، وبموازنات للموت، كان يكفي قليلها لاستنقاذ حياة البشر مرة، وإلى ما شاء الله.
من بين المتكلمين، جون ألين، رئيس معهد بروكينغز، وعنده أن الوباء كشف نقاط النظام العالمي الهش، فيما فضح الجنون العالمي في التعاطي، فبدلاً من الوقوف صفاً واحداً في مواجهة الكارثة، فضّل كثيرون الانعزالية والنأي بالنفس واللجوء إلى جبال تعصمهم، وقد اكتشفوا أن الوهم هو سيد الموقف.
حديث الانعزالية يقودنا بالضرورة إلى التوجه غرباً حيث الولايات المتحدة، وهناك فريق كبير ينادي بأنه حان الوقت لأن تهتم واشنطن بأمورها، وألا تلقي بالاً لبقية العالم، ولا سيما أن الطبيعة قد حبتها بحاجزين من المياه العميقة، الأطلسي شرقاً، والهادي غرباً.
التضاد الأميركي كان ولا يزال قائماً، فالبعض يرى قاطعاً أنه لا توازن للعالم إلا من خلال أميركا الاستثنائية، فيما رئيسها المنتهية ولايته خلال أيام قطع أكثر من مرة بأن بلاده قد سئمت من لعب دور شرطي العالم ودركه.
باختصار غير مخلّ، أثبتت جائحة «كورونا» أن أميركا لاعب في غنى عنه في الشؤون العالمية لسببين - والعهدة على الراوي ماري سلوتر، الدبلوماسية والمفكرة الأميركية، الرئيسة التنفيذية لشركة نيو أميركا.
السبب الأول هو أنها انسحبت من منظمة الصحة العالمية، حتى لو كانت الأخيرة مليئة بالأخطاء والخطايا، فإنه كان من الواجب أن تقوّم مسارها، لا أن تتركها عرضة للغرق، ومعها العالم من ورائها.
فيما الثاني موصول برفضها الانضمام إلى تحالف كوفاكس لتوزيع اللقاحات، وهنا بدا واضحاً أن أميركا أطفأت أنوار مدينتها التي كانت منتصبة فوق الجبل، ولم تعد تضيء للعالم المتلهف على من يلقي له بطوق نجاة وسط الجائحة.
ولعل السؤال اللغز، الملفوف في سر، والمختبئ داخل أحجية، هو كيف وصل الوضع الصحي في الداخل الأميركي إلى هذا المنحدر، وهي التي رصدت موازنة عسكرية للعام الجديد تصل إلى 3 أرباع تريليون دولار؟
يتحدث كيشور محبوباني، المفكر السنغافوري الشهير، عن جزئية مثيرة للغاية، تعكس مستقبل التحولات الجيوبوليتيكية في العالم، إذ يلاحظ أن أرقام الإصابات والوفيات في آسيا أقل بكثير، مقارنة بأوروبا وأميركا، وأرجع ذلك إلى انتقال الكفاءة من الغرب إلى الشرق، ويضع يدنا على «كعب أخيل» بقوله إن المجتمعات الغربية عرفت ذات يوم باحترامها للعلم والعقلانية، وهو ما لم يعد موجوداً.
الجائحة تغير العالم، وقد وضعت الجميع أمام أزمة ضمير.