نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

لأنهم ما بَدّلوا ولا بُدّلوا

في 1 يناير (كانون الثاني) المقبل ورغم الصقيع المناخي والسياسي، سيقوم الرئيس محمود عباس وحوله ثلة من وجهاء الطبقة السياسية الفلسطينية والفتحاوية بصورة خاصة، بإيقاد الشعلة من على بُعد أمتار قليلة من ضريح المؤسس ياسر عرفات.
إيقاد الشعلة طقس مستمر منذ عقود طويلة مضت، تعبيراً عن استمرار العمل بشعار «(فتح) ديمومة الثورة وشعلة الكفاح المسلح».
كان إيقاد الشعلة زمن مئات آلاف البنادق المنتشرة في كل مكان يوجد على أرضه فلسطينيون، يتعدى العمل الرمزي أو الطقس المتداول؛ بل كان فعلاً تعبوياً يتناغم مع قدرات فعلية لثورة أعلن الزعيم جمال عبد الناصر أنها «وُجدت لتبقى»، وما كان من عرفات إلا أن أكمل الجملة... قائلاً: «ولتنتصر».
خبت الشعلة بعد تصفية الوجود العسكري الفلسطيني الضخم على الساحة اللبنانية، حيث ضعف جسد الثورة بفعل ضعف القلب الذي كان لبنان وبيروت خصوصاً عضلته وشرايينه ودمه.
إنها رحلة طويلة بين آخر شعلة أوقدها ياسر عرفات في بيروت، وشعلة هذا العام التي يوقدها عباس من جوار الضريح... رحلة لا تُحسب بالسنين؛ وإنما بالتحولات والخلاصات.
منذ الخروج من لبنان، وتحديداً من المعقل الأخير في طرابلس، جرى؛ وإنْ ببعض بطء، التحول الجذري؛ وعنوانه الدقيق الخروج من فردوس أرض الكفاح المسلح إلى متاهة وكمائن العمل السياسي نحو التسوية، ولم تكن زيارة عرفات لمبارك المُقاطَع فلسطينياً وعربياً، وهو في طريقه إلى المنفى الجديد، لتقديم الشكر على مساعدة الرئيس المصري لتمكين عرفات من الخروج من مجزرة كان قد أُعدّ لها للقضاء عليه وعلى رجاله في طرابلس، ولا للتزود بالوقود؛ وإنما لتدشين الخيار النهائي الذي هو خيار الانصراف الكلي إلى التسوية التي لا بد من أن تبدأ بتنازل كان أقرب إلى المستحيل، هو الاعتراف بالقرار «242» ليس بوصفه شرطاً للتسوية؛ وإنما لمجرد أن تتحدث أميركا على مستوى منخفض مع الفلسطينيين.
كان أول الطريق لقاء مع السفير الأميركي بليترو في تونس، ودخلت الحالة الفلسطينية إلى عملية ترويض أميركي بطيء جرت وقائعها بين مدّ وجزر إلى أن بلغت خلاصاتها النهائية في مدريد ثم واشنطن ثم أوسلو.
أقيمت السلطة الفلسطينية على جزء صغير من الأرض وعلى وعد بأن يتسع ليشمل دولة مستقلة كاملة السيادة. قدم الفلسطينيون ثمناً باهظاً لقاء ذلك، هو اعتراف بحق إسرائيل في الوجود، يقابله اعتراف إسرائيلي، بدا فيما بعد أن لا قيمة له، بمنظمة التحرير ممثلاً وحيداً للشعب الفلسطيني. كانت حاجة الفلسطينيين إلى الاعتراف الأميركي والإسرائيلي بهم قوية التأثير في إضعاف شروطهم لضمان تسوية فعلية يرضون عنها. كان الاعتراف الذي سمي «متبادلاً» غير متوازن؛ لأنه خلا من اعتراف إسرائيلي بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم. ومنذ جرت المصافحة المثيرة والتي وصفت بالتاريخية بين عرفات ورابين في حدائق البيت الأبيض وإلى يومنا هذا ظلت الشعلة تضاء كل سنة بوصفها أحد الطقوس الموروثة عن الثورة المسلحة، إلا إن الطقس شبه المقدس صار عارياً من مضمونه القديم بعد أن توقف الكفاح المسلح، وانهارت التسوية، وتحول السلام المتخيَّل الذي قُدم كل شيء من أجله إلى حالة شقاء وعذاب ومرارة نراها كل يوم حتى حين تضاء الشعلة بينما دوريات «جيش الدفاع الإسرائيلي» تتسكع في كل مكان ترغب التسكع فيه، في بلد صار يعرف بثلاثة أحرف أبجدية «أ» - «ب» - «ج».
وإذا كانت الأحرف الثلاثة تحدد صلاحيات السلطة في بلدها وعلى أهلها، إلا أنها في الوقت ذاته صار لها تعريف آخر في قاموس الاحتلال مكون من ثلاث كلمات... «كل الأرض مستباحة».
سوف تظل الشعلة تضاء كل عام على مقربة من ضريح عرفات؛ إنْ بيد عباس، وإنْ، بعد عمر طويل، بيد غيره، أما الذين ما زالوا يشاهَدون حول الشعلة منذ زمن عرفات إلى يومنا هذا، فقد قسمهم القدر إلى قسمين: الأول قضى نحبه، والثاني ينتظر، فهم منذ البداية وإلى يومنا هذا ما بَدّلوا ولا تبدّلوا.