سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

جيل حطمته «فيروسة»

على عكس ما يشاع، فإن الوباء لا يميز بين أغنياء وفقراء، شباب ومسنين، نساء ورجال، فكل ما قيل لغاية اللحظة، كلام تذروه الرياح. فأمام الجائحة الجميع سواء.
فما كاد العالم يحتفل بولادة لقاحات واعدة، تقضي على فيروس كورونا، حتى بدأت الطفرات الجديدة السريعة، تنبت من بريطانيا، وهولندا وجنوب أفريقيا، ودول أخرى. بداية العام الجديد تشي بمزيد من الحجْر، والانهيارات الاقتصادية والضحايا. لعبة القط والفأر، لن تكون نهايتها بالسرعة التي تمنينا. ولمرة أخرى، يتبين أن الحسابات البشرية قاصرة، وأن الأنانية واحدة من العلل التي سيصعب علاجها، أكثر من الفيروسات نفسها، التي بتحوراتها تسخر من انعدام الرؤية، والحسّ بالمسؤولية الإنسانية.
من المقزز رؤية دول غنية تتناتش اللقاحات، وتفاخر علانية، بأن مواطنيها يلقحون قبل الفقراء، في زمن انعدمت فيه الحدود، ولم تبقَ إلا في أذهان من يعيشون في جحور القرن الماضي. ودول أقل حظاً تشمت بأوروبا لأنها أصبحت، مهدَ تحورات لفيروس فائق السرعة، في حين لا حصانة لأحد، طالما أن شلَّ حركة الطائرات كلياً، لم يعد ممكناً، وإغلاق معبر بحري بين فرنسا وبريطانيا يتسبب في مجاعة. وتمكن بلد مثل الأردن، أن يقي نفسه مغبة الموجة الأولى، لترتفع إصابته بشكل جنوني بمجرد إعادة الملاحة الجوية، ولبنان مثل آخر.
وقيل طويلاً إن الشباب بمنأى عن الفيروس، ليكون ما تعرضوا له أسوأ من وباء. في الأصل من بين كل تسعة مصابين ثمة طفل أو شاب دون العشرين. وحذرت «يونيسيف» من ضياع جيل، قد لا يعرف المدرسة لسنتين متتاليتين، ويتعرض لخسارة علمية يصعب تعويضها، هذا عدا تدني مستوى الرعاية الصحية حتى في الدول المتقدمة، وتأخر إعطاء اللقاحات التقليدية، ووقوع الملايين تحت وطأة الجوع. مطاعم المعدمين في فرنسا، باتت تستقبل الشبان بشكل غير مسبوق. فقد كانوا أول ضحايا ضياع فرص العمل. نصف الفقراء في بلاد النور والديجور، أعمارهم دون الثلاثين، وربعهم يعانون من الاكتئاب.
أم أميركية تقول إن طفلتها رأت في السنة المنصرمة زرافات في حديقة الحيوانات أكثر مما رأت أطفالاً. وهو ما تشكو منه ملايين الأمهات في العالم. وهذا مدمّر في السنوات الأولى. ويعتقد أن ما تتسبب فيه الجائحة من إحباط وعزلة للشباب، في سن غضة، أخطر من عدد حوادث السيارات وحالات الانتحار. وبحسب إحدى الدراسات، فإن واحداً من كل ستة شبان تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاماً فقدوا وظائفهم أثناء الإغلاق، في أوروبا، وآخرون خسروا المداخيل الصغيرة التي كانوا يؤمّنونها إلى جانب دراستهم.
وحتى الطموحات يبدو أنها فقدت وهجها؛ إذ يعتقد أن ثلاثة من كل أربعة شبان سيكون للجائحة تأثير طويل على مستقبلهم.
وهذا منطقي للغاية، والأزمة الحالية أكثر ما تشبّه إلى مرحلة الكساد العظيم عام 1929، التي أعقبت انهيار سوق الأسهم الأميركية، وبقيت مفاعيلها طوال الثلاثينات وبداية الأربعينات. وعنونت جريدة «لوموند» مقالاً مهماً لها نهاية هذا العام تصف الوضع بأنه «الركود الذي لا سابق له».
فأميركا ليست بخير وقد ارتفعت البطالة مما يقارب مليوناً ونصف المليون، العام الماضي، أي قبل الجائحة، لتطال 16 مليوناً حالياً يتلقون إعانات بطالة. والأسوأ أن الاتجاه هو إلى تخفيض قيمة المعونات إلى الثلث؛ خوفاً من خلق حالة من التقاعس عن العمل، وهو ما قد يتسبب في ركود أكبر.
ومن الفوائد القليلة لـ«كورونا» أنها ساوت بين الشعوب. فبين الشبان من انتقل من المدرسة إلى الجامعة، وهو وراء جهازه، والمحظوظ بينهم من بدأ عملاً، ولم يرَ من الحياة المكتبية سوى غرفة نومه التي يشتغل منها. ومهما قللت من خطورة ما يحدث، فنحن محكومون حتى نهاية الشتاء على الأقل، بنمط شبيه بما رأيناه مع بداية الجائحة. ويعتقد أن صغار السن، سيكونون أكثر تأثراً من ذي قبل بحالات العزل، والانقطاع عن العالم والإحساس بالسوداوية. وهو ما دفع علماء النفس إلى النصح بعودة ولو جزئية إلى الصفوف، لكسر حدة الأرق والإحباط التي تنال من جيل بأكمله. وهناك علامات استفهام كبيرة، حول إذا ما كان الشباب قد دفع غالياً، ثمن تأمين حياة من هم أكبر منهم سناً.
لعل بيل غيتس أحد أكبر المتفائلين بما سيحمله العام المقبل، من رؤية إيجابيات اللقاحات، إلى تطوير اختبارات سهلة وسريعة، وعقد مؤتمر دولي حول المناخ بعد انقطاع. ففي نهاية كل نفق كوة ينفذ منها الضوء. ولعل الإشعاع الكبير سيأتي من الشبان الذين يشعرون من الآن بحسب الدراسات، بأن عليهم أن يكونوا أكثر إنسانية من جيل لم يتضامن بما يكفي ليقي نفسه شر الشرذمة أمام فيروس، ولم يستخدم ذكاءه بما يليق، ليجعل بيئته أقل تلوثاً وسمّاً.
إذا كان نصف الشبان الأوروبيين يشعرون بأن مستقبلهم في خطر، بعد أن أعفي ربعهم عن أعمالهم، وانخفضت العروض الجديدة بأكثر من 65 في المائة، والأميركيون أسوأ حالاً منهم، فما هو شعور الشبان العرب، في لبنان وسوريا واليمن وليبيا؟ الذين لم نرَ دراسة تسأل عن أحوالهم؟
هل سنكون الجيل الذي أخفق مع مرتبة الشرف، بعد أن وصل إلى القمر، وأنتج أكبر ديمقراطيات في التاريخ، وجمع العالم كله على شبكة افتراضية، وحطمته جرثومة؟!