ماذا بعد المرض؟ الدَين... فبعد الطاعون هناك كومة من سندات الدين في الانتظار، أو ربما كان هناك ما هو أكبر بكثير، ربما هناك جبل حقيقي. فقط أردنا التذكير بأن الدين العام لمدينة فينيسيا في العصور الوسطى كان يحمل الاسم ذاته، «مونتي» القريب في دلالته من كلمة «جبل».
طبقاً للمراقب المالي الذي تولى صندوق النقد الدولي في شهر أكتوبر (تشرين الأول)، فإن وباء «كوفيد - 19»، وما ارتبط به من فترات إغلاق، قد دفع إلى حزمة ضخمة من التدابير المالية التي بلغت 11.7 تريليون دولار، أي نحو 12 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وربما ارتفع هذا الرقم منذ أن تم حسابه في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول). وطبقاً للصندوق، فإن العجز الحكومي من المنتظر أن يرتفع في المتوسط بنسبة 9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ومن المتوقع أن يقترب الدين العام العالمي من 100 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو رقم غير مسبوق.
ففي اقتصادات الدول المتقدمة، ارتفع الدين العام نسبة إلى الناتج بالقدر نفسه منذ أواخر سبعينات القرن العشرين، كما حدث بين عام 1914 وعام 1945. وفي الإجمالي، كان تأثير الأزمة المالية العالمية وانتشار الوباء العالمي تقريباً على النحو نفسه، كما حدث في الحرب العالمية الثانية، ورغم أن «كوفيد - 19» لن يقتل عدداً كبيراً من الناس على مستوى العالم مثل أكبر حرب شهدها التاريخ، فمن المرجح أن تكون الخسائر في الأرواح في الولايات المتحدة أعلى من أي وقت مضى. كما تبدو التكاليف المالية المترتبة على الوباء مماثلة لتلك التي تتحملها الحرب العالمية.
الواقع أن المتوسطات العالمية لصندوق النقد الدولي تعمل على حجب تباينات هائلة بين البلدان. فقد ارتفع العجز في سبع دول متقدمة، هي كندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة والبرازيل وإيطاليا وإسبانيا واليابان، بأكثر من 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وفي جميع تلك البلدان، سوف يتجاوز إجمالي الدين العام 100 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العام الحالي، مع بلوغ العجز في اليابان نسبة 266 في المائة، فيما يتوقع صندوق النقد الدولي أن يصل إجمالي الدين في الولايات المتحدة إلى 131 في المائة. وفي العديد من البلدان المتقدمة، سوف يتجاوز الدين العام 100 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العام الحالي.
ولأن بنك الاحتياطي الفيدرالي اشترى أغلب سندات الخزانة الجديدة التي أنشئت العام الحالي، فإن الزيادة في الدين الفيدرالي الذي يحتفظ به عامة الناس ليست هائلة. ويتوقع «مكتب الميزانية» في الكونغرس أن يكون أقل قليلاً من 100 في المائة هذا العام (98.2 في المائة)، ولكن هذا لا يزال ثلاثة أمثال ما كان عليه في بداية هذا القرن. ومن المتوقع أن يتجاوز العام المقبل المستوى الذي كان عليه في عام 1945.
لكن القصة لا تنتهي عند هذا الحد، لأن الحكومة الفيدرالية من المتوقع أن تستمر في الاقتراض كما نرى، مع ارتفاع العجز بشكل ثابت من 4 في المائة في أواخر عشرينيات القرن العشرين إلى أكثر من 12 في المائة بحلول منتصف القرن. إن التوقعات الأساسية لمكتب الموازنة في الكونغرس تتلخص في أن يصل الدين الفيدرالي في أيدي عامة الناس إلى 195 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2050. وهو ما يقارب ضعف ما كان عليه في نهاية الحرب العالمية الثانية.
تاريخياً، كانت الديون العامة الضخمة ذات سمعة سيئة للغاية. ففي كتابه «جولات في الريف» التي شرع في كتابتها الكاتب الصحافي والمصلح الراديكالي الإنجليزي ويليام كوبيتيت عام 1822، ونشرت في عام 1830، أطلق كوبيتيت سهام النقد على الديون الوطنية الهائلة التي تراكمت أثناء حروب نابليون. ويزعم كوبيتيت أن الغرض السياسي من الدين كان «سحق الحرية في فرنسا والإبقاء على الإصلاحيين في إنجلترا، ولكن التأثير الرئيسي للدين بعد الحرب كان إعادة التوزيع. فالدين الوطني وكل الضرائب وكافة الرهانات قريبة الشبه تميل بشكل طبيعي إلى اجتذاب الثروة إلى الجماهير الحاشدة ظاهرياً، لكنها في الحقيقة، تصب في جيوب قلة قليلة».
واستطرد قائلاً: «إن الديون، أو لنقل الديون المباركة، كانت معلقة حول عنق هذه الأمة وكأنها حجر ثقيل... كانت (دوامة) تجتذب الأموال من الفقراء إلى النخبة الثرية الجديدة».
لم يكن كوبيتيت على خطأ، فوفقاً لأفضل التقديرات من بنك إنجلترا، فقد تسببت حروب بريطانيا بين عامي 1776 و1815 في دفع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى الارتفاع من 86 في المائة إلى أكثر من 172 في المائة بحلول عام 1822. وفي تلك الأيام كانت السندات الحكومية مملوكة بالكامل تقريباً للنخبة الضئيلة من الأثرياء، في حين كانت الضرائب غير مباشرة إلى حد كبير، على الواردات والاستهلاك، وبالتالي تراجعت بشدة.
علاوة على ذلك، كانت أسعار الفائدة الحقيقية (المعدلة تبعاً للتضخم) طويلة الأجل إيجابية بشدة، حيث بلغت في المتوسط 5.27 في المائة في عام 1820.
والنبأ السار والسيئ في آن هنا، هو أن الديون العامة اليوم تتسم بطابع مختلف تمام الاختلاف، إذ تتوزع الملكية على نحو أكثر تساوياً، بحيث تحتفظ معظم السندات بأموال التأمين والمعاشات التقاعدية وغيرها من أموال المؤسسات المالية. فالضرائب اليوم باتت أكثر تقدمية مما كانت عليه في أوائل القرن التاسع عشر، وهو الوقت الذي كانت فيه الضرائب على الدخل تُعَد منفعة في زمن الحرب. وكما رأينا، فإن قسماً كبيراً من الديون العامة اليوم تحتفظ به البنوك المركزية، وهذا يعني أن جزءاً من الحكومة يدين بأمواله لجزء آخر من الحكومة ذاتها.
في بحث جديد مهم، يزعم الخبيران الاقتصاديان جيسون فورمان ولورانس سامرز، أن الاقتراض العام اليوم يقدم شيئاً نادر الوجود في الاقتصاد: وجبة غداء مجانية. والمفتاح إلى ذلك هو المستوى المنخفض تاريخياً من أسعار الفائدة الاسمية والحقيقية. فمن ناحية، تعني أسعار الفائدة المنخفضة أن «السياسة النقدية لا يمكن الاعتماد عليها لتثبيت استقرار الاقتصاد»، ومن ناحية أخرى، تعني أسعار الفائدة المنخفضة أيضاً أن «التوسعات المالية ذاتها من الممكن أن تعمل على تحسين الاستدامة المالية من خلال زيادة الناتج المحلي الإجمالي بما يتجاوز زيادة الدين ومدفوعات الفائدة».
إن أسعار الفائدة اليوم تعني أن نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي تشكل وسيلة رديئة لقياس أعباء الديون. ذلك أن الدين العام المتراكم يشكل مخزوناً، في حين يشكل الناتج المحلي الإجمالي تدفقاً. وإذا تم قياس الدين نسبة إلى تقديرات القيمة الحالية للناتج المحلي الإجمالي أو العائدات الضريبية المحتملة، فستكون «مستويات الدين الحالية عند مستويات منخفضة وليس مرتفعة».
لا يقول فورمان وسامرز ــ حسب أنصار النظرية النقدية الحديثة ــ إن الدين لا يهم، وأن السماء هي الحد الأقصى. فهما يزعمان ببساطة أن «الأفكار التقليدية الخاصة بميزانية متوازنة دورياً على أساس أن (الديون المرتفعة) من المرجح أن تؤدي إلى نمو غير كافٍ وعدم استقرار مالي مفرط»، وهو ما ينطوي على مفارقة تاريخية. فالسياسة المالية قادرة على دعم النمو المستمر بالاستعانة بالعجز المستمر ما دامت خدمة الديون الحقيقية (بمعنى تعديل أقساط الفائدة تبعاً للتضخم) لا ترتفع إلى ما يتجاوز 2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على مدى العقد المقبل.
وإذا اقترضت الحكومات لتمويل الاستثمار، فسيكون ذلك أفضل بكثير، لأن «العديد من الاستثمارات العامة تسدد تكاليفها بنسفها، أو تقترب منها، وخطر عدم القيام بهذه الاستثمارات أكبر من خطر الحد من العجز».
* بروفسور سابق في جامعات هارفارد ونيويورك وأكسفورد
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»