د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

قصة فورد

عند الحديث عن رواد الأعمال البارزين عبر التاريخ، لا بد من ذكر هنري فورد مؤسس شركة «فورد» الأميركية للسيارات، الذي لم يتميز عن بقية رجال الأعمال عبر التاريخ بسبب ثروته الطائلة، ولا بسبب استمرارية إمبراطورتيه الصناعية لأكثر من قرن، ولكن لأن ما فعله فورد في صناعة السيارات أثر على هذه الصناعة وحولها إلى ما هي عليه اليوم، وبالتالي غير شكل التنقل في العالم بأسره.
ولد هنري فورد سنة 1863م في مزرعة خارج مدينة ديترويت شرق الولايات المتحدة، ولم يبد منذ صغره اهتماماً بالفلاحة، بل كان اهتمامه بالأجهزة منذ نعومة أظفاره، وكان يستمتع بفك الساعات اليدوية وتركيبها. وافتتن بمعدات المزرعة وكيفية عملها، وكان المحرك البخاري مصدر إلهام له، حتى انتقل إلى مدينة ديترويت في عشرينياته، واشتغل بالميكانيكا في «مصنع أديسون للكهرباء»، ليصبح كبير المهندسين في أول الثلاثينيات من عمره. وحين قرأ مقالة لمهندس ألماني عن محرك الوقود أدرك أن المستقبل لهذه التقنية، وعمل جاهداً لتطوير محركه الخاص، حتى استطاع يوماً أن يصنع سيارة بدائية، مستعيناً بإطارات الدراجات الهوائية؛ سيارة دون مكابح، ليس لها القدرة على الرجوع للخلف، ويعاني محركها من ارتفاع متكرر بالحرارة.
أنشأ فورد شركة لتصنيع السيارات، ممولاً إياها من مستثمرين مؤمنين بقدراته، ولكن طريقة عمله لم تتناسب مع المستثمرين الذين أرادوا تعظيم عوائد الشركة بأسرع وقت ممكن باستهداف الأثرياء الذين كانوا يشكلون الحصة الأكبر من المشترين، بينما اهتم فورد بتحسين جودة سياراته وتخفيض تكلفة تصنيعها. ولم يلبث فورد طويلاً حتى أبعده المستثمرون عن شركته التي أنشأها بعد أن كان لا يملك منها إلا 15 في المائة فقط. ولكن فورد لم يستسلم، واستمر في تحسين محرك سيارته، وكي يجذب مستثمرين آخرين، ركز على سيارات السباق، ودخل أحد السباقات بسيارته من صنعه، وتمكن من الفوز بالسباق، وهو الذي لم يقد سيارة في سباق قط! وبعد فوزه بالسباق، استطاع جذب مستثمرين، لكن هذه المرة في شركته الخاصة، وبشروطه هو!
في شركته، صنع فورد موديلات عدة من السيارات، سماها بالأحرف الهجائية، وكل مرة كان الطراز الجديد يتفوق على سابقه، حتى صناعة الطراز «تي»، وهو الحرف العشرون في الأحرف الهجائية الإنجليزية. هذا الطراز تميز بتكلفته المنخفضة، وجودته العالية، وأصبحت هذه السيارة شعبية في الأوساط الأميركية، حتى أنها أصبحت أول سيارة يملكها الكثير من الأميركيين. وحقق فورد في هذا الطراز مبتغاه، فاستهدف الطبقة المتوسطة بدلاً من الطبقة الثرية، واستمرت شركة فورد في إنتاج الطراز «تي» طوال عقدين منذ أكتوبر (تشرين الأول) 1908 حتى مايو (أيار) 1927؛ بائعة أكثر من 15 مليون سيارة منها خلال هذه المدة.
خلال سنواته الأولى، ركز فورد، وبشكل كبير على تخفيض تكلفة تصنيع السيارة الواحدة، وعلى تقليل مدة تصنيعها، وكان هو مبتكر مبدأ الإنتاج بكميات ضخمة. وهو كذلك أول من تبنى طريقة خط التجميع في مصانع السيارات، وتقوم فكرة التجميع على أن تتنقل السيارات بين وحدات التجميع، وتتولى كل وحدة إنجاز مهمة واحدة في جميع السيارات. واستطاع بذلك تخفيض مدة تصنيع السيارة من 12 ساعة إلى 6 ساعات فقط! وبذلك تمكن فورد من تخفيض تكلفة إنتاجه، فبينما كان منافسوه يبيعون سياراتهم بنحو 2000 دولار، كان فورد يبيع الطراز «تي» بقرابة 850 دولاراً. كانت حصة هذا الطراز في السوق توازي حصص جميع شركات السيارات المنافسة! ولم تكن الشركات الأخرى لتنافسه لولا أن اتبعت نفس منهجيته، التي لا تزال تستخدم حتى يومنا هذا في مصانع السيارات، مع فروقات بسيطة.
لقد استطاع هنري فورد تغيير وجه الصناعة الأميركية، ووضع أميركا في خارطة صناعة السيارات، وجعل السيارات جزءاً من حياة الفرد الأميركي متوسط الدخل. ولم تكن السيارات من قبله متاحة إلا للأثرياء، وكانت وجاهة اجتماعية أكثر من كونها حلاً لمشكلات التنقل. وتمكن من خلال امتلاكه الرؤية والشخصية الكاريزمية، والإصرار والعزيمة، جعل اسمه ماركة عالمية في صناعة السيارات. وخلال أكثر من قرن غزت سياراته دول العالم، وأصبحت جزءاً من أسلوب الحياة؛ هذا الأسلوب الذي كان سيتأخر كثيراً، لولا إصرار فورد على جعل السيارات جزءاً جوهرياً في الحياة، رافعاً جودة حياة البشرية. لم يلتفت فورد في بداية شركته إلى العائد المادي، بل كان دائماً ما يقول إن التركيز يجب أن يكون على مستوى الخدمة وجودتها، أما الأرباح فهي نتائج لهذه الجودة، وإنجازاته في شركة «فورد» في العقدين الأولين من القرن الماضي خير دليل على ذلك.