أندرياس كلوث
خدمة «بلومبيرغ»
TT

معضلة عصر الاستقرار النووي

أطلق مؤخراً صاروخ باليستي عابر للقارات في الاتجاه العام لجزر هاواي الأميركية. وفي أثناء هبوط الصاروخ بعد مرور بضع دقائق، وحال وجوده خارج الغلاف الجوي للأرض، تعرض للإصابة بصاروخ آخر أسفر عن تدميره.
ومع هذا التفجير، بلغ التوازن النووي الهش على مستوى العالم حد الخروج من الاستقرار على نحو مفاجئ. وباتت مخاطر استخدام القنابل النووية آخذة في الازدياد الفعلي من جديد. ودخلت مرحلة النمو مرة أخرى.
كان الصاروخ الباليستي العابر للقارات والمحلق فوق أجواء المحيط الهادي عبارة عن هيكل أميركي مصمم بهدف اختبار نوع جديد من تقنيات الاعتراض العسكرية. وأثناء تحليق الصاروخ، قامت الأقمار الصناعية برصده وأبلغت قاعدة القوات الجوية في كولورادو، والتي تواصلت بدورها مع إحدى مدمرات القوات البحرية المتمركزة في شمال شرقي هاواي. ولقد أطلقت هذه المدمرة (يو إس إس جون فين) صاروخاً خاصاً تمكن من إصابة وتدمير الصاروخ الباليستي المهاجم، وفقاً للاصطلاحات العسكرية المستخدمة في العملية.
للوهلة الأولى، ربما يبدو هذا النوع من التلاعب التقني رفيع المستوى سبباً ليس للرهبة فحسب، وإنما للبهجة والسعادة أيضاً، نظراً لأنه يعد بحماية قوية للولايات المتحدة من الهجمات الصاروخية المحتملة من جانب كوريا الشمالية، على سبيل المثال. ولكن عبر المنطق الغريب للاستراتيجية النووية، فإن التفوق التكنولوجي الهادف إلى رفع مستويات الأمان لدينا قد ينتهي به الأمر إلى جعل الولايات المتحدة أقل أماناً. وذلك لأن تقنية الاعتراض الجديدة تقطع الصلة بين الهجوم والدفاع التي تؤسس لكل الحسابات المعنية بالسيناريوهات النووية المحتملة. ومنذ حقبة الحرب الباردة، جرى الحفاظ على الاستقرار النووي - وبالتالي المحافظة على السلام العالمي - من خلال تصور الواقع المريع المؤكد للدمار النووي المتبادل. ولن تُقدم أي دولة نووية على توجيه الضربة الأولى إن كانت متيقنة من وقوع الانتقام النووي الفوري في المقابل. بيد أن هناك طريقة مختلفة في توصيف «الدمار المؤكد المتبادل»، ألا وهي الضعف المتبادل.
إذا تمكن لاعب واحد - في نظرية اللعبة النووية المتصورة - من الحصول على درع نووية بصورة مفاجئة (مثل هذه النظم الأميركية يُطلق عليها اسم أنظمة إيجيس)، فإن حالة الضعف المتبادلة تذهب أدراج الرياح على الفور. ويتعين على الخصوم في هذه الحالة، من شاكلة روسيا بصفة أساسية وكذلك الصين بصفة متزايدة، افتراض أن الدرع النووية لديهم لم تعد فعالة في شيء لأنهم لن يتمكنوا من توجيه الضربة المقابلة بنجاح.
لهذا السبب، أصبح التصعيد الدفاعي مثيراً لمزيد من الجدل تقريباً كمثل الجدل الذي يثيره التصعيد الهجومي. ظلت الحكومة الروسية تحارب أنظمة الاعتراض الأميركية البرية في مواقع مثل أوروبا الشرقية وولاية آلاسكا. بيد أن تجربة الشهر الجاري كانت الأولى من نوعها التي تقوم فيها مدمرة حربية بمهمة اعتراض صاروخ باليستي عابر للقارات. ويعني هذا التحول الكبير أنه يمكن للولايات المتحدة أو أي دولة أخرى حماية نفسها من كل الجوانب قبل فترة طويلة من الزمن.
يؤدي مثل هذا اليقين إلى تعقيد الموقف الذي يتسم بالفعل بقدر كبير من التعقيد والتشابك. إذ تخلت الولايات المتحدة وروسيا، اللتان تملكان نحو 90 في المائة من الأسلحة النووية في العالم، عن معاهدتين للحد من الأسلحة النووية خلال العقود العديدة الأخيرة. ومن المقرر للمعاهدة الوحيدة المتبقية - وتحمل اسم «نيو ستارت» - أن تنقضي صلاحيتها بحلول 5 فبراير (شباط) من العام المقبل، أي بعد مرور 16 يوماً فقط على تولي الرئيس جوزيف بايدن مهام منصبه الجديد. وتواجه معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، التي حاولت طوال العقود الخمسة الماضية منع البلدان التي لا تمتلك الأسلحة النووية من الحصول عليها، مأزقاً عميقاً، ومن المقرر النظر في إعادة التفاوض بشأنها في العام المقبل، مع نوايا إيران التي لا تزال مجهولة على الجميع.
وفي الأثناء ذاتها، تواصل الولايات المتحدة وروسيا العمل على تحديث الترسانة النووية الخاصة بهما، في حين أن الصين تضيف الجديد من الأسلحة إلى ترسانتها بأسرع وتيرة ممكنة. ومن بين نظم الأسلحة الجديدة تلك القنابل النووية التي تحملها الصواريخ التي تتحرك بسرعة تفوق سرعة الصوت، وهي صواريخ فائقة السرعة للغاية، لدرجة أن قادة البلدان المستهدفة بهجمات تلك الصواريخ لا يملكون إلا دقائق معدودة لتحديد ماهية التهديد المقبل وكيفية الرد عليه. كما تشتمل تلك الأسلحة أيضاً على فئة الأسلحة النووية التكتيكية، ذات الحملات المصغرة التي تجعلها مناسبة تماماً للاستخدام في الحروب التقليدية، ومن ثم تخفيض عتبة الاستعانة بها في الصراعات العسكرية.
وعلى هذا النحو، تواصل المخاطر التصاعد بأن الحرب النووية قد تنشب عن طريق المصادفة أو سوء التقدير أو الإنذار الخاطئ، لا سيما مع وضع السيناريوهات التي تنطوي على الإرهاب أو البلدان المارقة أو نزاعات الفضاء الخارجي أو الفضاء السيبراني في الحسبان. وفي درجة من درجات الاحتجاج العالمي على مثل هذا الجنون، وقعت 84 دولة من دون أسلحة نووية على معاهدة حظر الأسلحة النووية، التي سوف تدخل حيز التنفيذ الفعلي اعتباراً من العام المقبل. ولكن لم توقع البلدان النووية التسعة ولا أقرب حلفائها على هذه المعاهدة حتى الآن. بدلاً من ذلك، تفسر القوى النووية الدولية الراهنة أنباء نجاح تجارب الاعتراض الصاروخي الباليستي الأخيرة بأنها محفز قوي للبدء في سباق تسلح نووي جديد. ولسوف تحاول صناعة الصواريخ الأكثر سرعة مع إضافة مزيد من التقانات الخداعية، والتدابير المضادة، والرؤوس الحربية الجديدة ذات الاستخدامات الأكثر مرونة ضمن مجموعة أوسع من السيناريوهات الاستراتيجية، فضلاً عن دروعهم الواقية الخاصة بطبيعة الحال.
ولا بد لهذا الجنون من وقفة صارمة، ومن أفضل الشخصيات الدولية لتولي زمام المبادرة في ذلك هو الرئيس الأميركي الجديد. إذ ينبغي على السيد بايدن فور توليه السلطة أن يقترح على الفور قيام الولايات المتحدة وروسيا بإطالة أمد معاهدة (نيو ستارت) لمدة خمس سنوات أخرى، من أجل كسب مزيد من الوقت. كما ينبغي عليه في الوقت نفسه دعوة الحكومة الصينية وسواها من القوى النووية الأخرى إلى مائدة المفاوضات للتباحث في الأمر.
وينبغي للهدف الأول أن يتمثل في إعلان من قبل البلدان النووية التسعة أن أسلحتهم النووية تخدم أغراض الردع فقط من دون اعتبار الاستخدامات العدائية. كما ينبغي عليهم أيضاً توفير الضمانات الجديدة للأمن مع مساعدة البلدان غير النووية، وصياغة بروتوكولات الاتصالات الجديدة الخاصة بالأزمات. وأخيراً، ينبغي عليهم الموافقة على تقييد ومراقبة ليس فقط الأسلحة الهجومية لدى بعضهم، وإنما مراقبة الدفاعات النووية سواء بسواء.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»