لحسن حداد
كاتب مغربي وهو أستاذ جامعي في التدبير والتواصل والعلوم السياسية والجيواستراتيجيا وإدارة الأعمال. خبير دولي في التنمية والاقتصاد والدراسات الاستراتيجية والثقافية والاجتماعية. نائب رئيس «المنظمة الدولية للتنمية». وزير السياحة الأسبق في الحكومة المغربية. عضو في مجلس المستشارين المغربي (الغرفة الثانية في البرلمان). رئيس اللجنة المشتركة للبرلمانين الأوروبي والمغربي.
TT

دروس الحسم المغربي في «الكركرات»

أقدم الجيش المغربي، صباح يوم الجمعة 13 نوفمبر (تشرين الثاني)، على إخلاء معبر الكركرات الواقع بالمنطقة العازلة على الحدود المغربية - الموريتانية الذي كانت مجموعة من المدنيين القادمين من مخيمات تيندوف والمؤطَّرين من طرف عناصر مسلحة من ميليشيات جبهة البوليساريو قد احتلته قبل أكثر من ثلاثة أسابيع. هذا الاحتلال غير القانوني، من وجهة نظر كل المراقبين (من ضمنهم جان إيف دو كارا من «المجلس العلمي لمرصد الدراسات الاستراتيجية» بفرنسا، والدكتور سعيد بنيس المحلل السياسي بالولايات المتحدة، وجيل بارنيو العضو السابق في البرلمان الأوروبي، وغيرهم)، أوقف حركة التجارة والمسافرين بين أوروبا والمغرب من جهة، وموريتانيا والغرب الأفريقي من جهة أخرى.
ورغم نداءات الأمين العام للأمم المتحدة المتكررة، وكذلك الإشارة الواضحة في التقرير الأخير لمجلس الأمن (أكتوبر/ تشرين الأول 2020)، فإن جبهة البوليساريو استمرت في احتلال المعبر، وإيقاف حركة المرور، مما كان له عواقب وخيمة على تزويد الأسواق في موريتانيا وبلدان أفريقية أخرى بالمواد الأساسية، خصوصاً في زمن الأزمة.
لماذا عد كثير من الملاحظين ما قامت به «البوليساريو» عملاً لا قانونياً مخالفاً للشرعية الدولية؟ أولاً، لأن اتفاق وقف إطلاق ليوم 6 سبتمبر (أيلول) 1991 يتضمن مناطق عازلة على الحدود الشرقية والجنوبية للصحراء، والحدود يجب أن تبقى معزولة السلاح، ولا يجب لأي طرف أن يحاول تغيير واقع الحال فيها. وممر الكركرات يقع على الشريط الحدودي منزوع السلاح الواقع بين المغرب وموريتانيا. وقد قامت «البوليساريو» في مرات كثيرة بخرق هذا الأمر، وأقدمت على تسمية المناطق منزوعة السلاح شرق الجدار الأمني الذي وضعه الجيش المغربي بين عامي 1980 و1987 «مناطق محررة»، وأقامت بعض البنايات، ونظمت أنشطة هناك. وكانت الأمم المتحدة تتدخل كل مرة لحث «البوليساريو» على احترام اتفاق وقف إطلاق النار، والانسحاب من المنطقة العازلة.
احتلال معبر الكركرات في المنطقة الجنوبية الأخير كان النقطة التي أفاضت الكأس، فهو منافٍ لاتفاق وقف إطلاق النار، ومنافٍ للقانون الدولي فيما يخص حرية تنقل البضائع والأشخاص، لما في ذلك من ضرر على موريتانيا ودول الساحل ودول الغرب الأفريقي، ويضرب في العمق مسلسل التسوية السياسي الذي ترعاه الأمم المتحدة منذ ثلاثين سنة.
ويبقى السؤال الذي يُحَيِّر المراقبين أنفسهم: لماذا أقدمت قيادة البوليساريو على هذا العمل الذي نعتوه بأنه «لا مسؤول»، حيث عرَّضت اتفاق وقف إطلاق النار للخطر، بما في ذلك من تقويض حتمي لمسلسل السلام؟
أظن أن الأمر يرجع إلى عدة عوامل، نذكر منها: تراجع كثير من الدول عن الاعتراف بـ«الجمهورية الصحراوية»، وهي جمهورية موجودة على الورق فقط، ولا وجود لها على أرض الواقع، واعتراف كثير من الدول بالسيادة المغربية، بدليل فتح أكثر من ست عشرة قنصلية في مدينتي العيون والداخلة، وتوقيع اتفاقيات فلاحية وفي الصيد البحري بين المغرب والاتحاد الأوروبي (آخرها في 2019) لا تستثني منتوجات الصحراء، أضف إلى ذلك قرار الكونغرس الأميركي ابتداء من 2014 السماح للمساعدات الأميركية للمغرب أن تشمل الصحراء كذلك، واعتماد المغرب منذ 2015 لنموذج تنموي للصحراء يستثمر بموجبه ما يفوق 7 مليارات دولار في تنمية المنطقة، وقراره ترسيم حدوده البحرية، ونيته استغلال الجرف القاري الممتد من الصحراء إلى جنوب جزر الكناري، بتشارك ممكن مع إسبانيا (انظر: لحسن حداد، «أبعاد ترسيم المغرب لحدوده البحرية... وحتمية الحوار مع إسبانيا»، «الشرق الأوسط»، 10 فبراير/ شباط 2020). وكل هذا يعني أن المغرب ماضٍ في تأكيد سيادته على الصحراء، في وقت استنفدت فيه جبهة البوليساريو كل أوراقها، من المطالبة بأن تراقب البعثة الأممية (مينورسو) حقوق الإنسان في الصحراء إلى الضغط على الاتحاد الأوروبي لكي لا تشمل الاتفاقيات مع المغرب المواد المُنتَجة في الصحراء.
ولم تبقَ في جيب قيادة «البوليساريو» إلا نافذة ممر الكركرات، فانساقت وراء حلم الضغط على المجتمع الدولي والمغرب عبر محاولة عرقلة التجارة مع أفريقيا.
هل سيكون للتدخل المغربي لتحرير معبر الكركرات، والسماح لحركة التجارة باستئناف نشاطها، تأثير على اتفاق وقف إطلاق النار؟ لا أظن؛ اتفاق 1991 جاء ليكرس وضعاً عسكرياً كان المغرب قد حسم فيه الحرب لصالحه، بانتهائه من تشييد الجدار العسكري الواقي سنة 1987. فبعد هذا، صارت هجمات «البوليساريو» عبارة عن عمليات صغيرة هنا وهناك لا وَقْعَ لها على الوضع العسكري.
ثانياً، في حال وجود حرب، تعرف كل الأطراف أن المغرب سيخرج منتصراً لأن جاهزية جيشه عالية (انظر: يحيى حاتم، «المغرب له سادس أقوى جيش في أفريقيا»، «موروكو وورلد نيوز»، 4 ديسمبر/ كانون الأول 2019). والدعم الشعبي للجيش المغربي مرتفع بصورة كبيرة، كما رأينا عبر وسائل التواصل الاجتماعي يوم طرد الجيش المغربي «البوليساريو» من الكركرات. قد تقوم الجبهة ببعض العمليات الرمزية (سفيرة المغرب لدى إسبانيا سمَّت إنزال عنصرين من جبهة البوليساريو للعلم المغربي من أعلى قنصلية المغرب بفالنسيا بإسبانيا «عملاً مافيوياً») هنا وهناك كبارود للشرف - كما يقول الفرنسيون - ولكنها بعد ذلك ستخْلد إلى تقبُّل الوضع الجديد الذي أعطى للمغرب امتيازاً، يتمثل في حراسة المعبر وتنظيم عملية المرور عبره.
أخيراً، كل هذا يعني أنه لا بديل عن البحث عن حلول تضمن للمغرب حقوقه السيادية على الصحراء، وتعترف لأهلها بخصوصياتهم الثقافية، وُتخويلهم نوعاً من الحكم الذاتي داخل الدولة المغربية. مسلسل التسوية السياسية الذي ترعاه الأمم المتحدة لم يعطِ بعد ثماره، خصوصاً مع تجاوز حل الاستفتاء الذي لم يبقَ حلاً واقعياً منذ عشرين سنة.
وحسب مسؤول مغربي، فضل ألا يُذكَرَ اسمه، فإن المغرب مستعد لقبول الوضع الحالي، والتعايش معه لعقود، ولكن مأساة الصحراويين المغاربة المحتجزين (اللاجئين) في تندوف من طرف «البوليساريو»، تبقى وصمة عار في جبين كل دول المنطقة، كما يقول المسؤول ذاته.