حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

100 يوم على جريمة الحرب!

اليوم يكون قد مرّ 100 يوم على جريمة الحرب ضد بيروت ولبنان واللبنانيين! والأصح أول 100 يوم، من الأيام الخمسة، التي تم التعهد الرسمي أنه في نهايتها ستكون الحقيقة وضحت، وسيُرَسل إلى القضاء كل من يتبين أن له ضلعاً في المسؤولية عن الجريمة ضد الإنسانية التي ضربت بيروت. لكن حتى اللحظة لا شيء جادا في التحقيقات التي أسفرت عن توقيف موظفين إداريين بتهم تقتصر على الإهمال ليس إلاّ، وقال آخر بيان صدر عن مجلس القضاء الأعلى، وليس عن قاضي التحقيق العدلي المولج بالقضية، إن مذكرات توقيف تم تسطيرها بحق صاحب سفينة الموت الروسي الجنسية وكذلك قبطانها ويتم التحري عنهما!
بالتأكيد سيمر الكثير من الوقت قبل أن يتمكن الناس من تجاوز المشهد المخيف لدمار بيروت على رؤوس سكانها، وتعمق الجرح عندما تأكد الجميع أن فئة «كان يعلم» تشمل أكثرية المسؤولين من كبيرهم إلى صغيرهم، وتركوا العاصمة تُستهدف بأكبر قنبلة كيماوية في التاريخ (قصفت هيروشيما وناكازاكي بقنابل نووية)، وبالتالي من حق الناس أن تشكك في الوعود ممن أثبتوا أن لا عهود لهم، وتقول ممارساتهم إن لبنان مع هذه المنظومة لم يعد مكاناً آمناً للعيش.
لذلك كان التمسك بمطلب التحقيق الدولي ومراقبة مصير التحقيق المحلي من دون إهمال. ومراقبة مآل الوعود التي زعم مطلقوها أن إعادة إعمار المنطقة المهدمة المطلة على المرفأ لن تتأخر. وكذلك الأحاديث عن إجراءات قانونية خجولة، كاتجاه للحؤول دون بيع المنطقة المهدمة، بهاجس الحفاظ على نسيج العاصمة، وتلافي حدوث تغييرات ديموغرافية، بعدما رصدت أوسع الأوساط هجمة صيادي الفرص، وما أكثر الذين أثروا بفضل نظام المحاصصة الطائفي المولد للفساد وحامي الفاسدين الذين يريدون تبييض أموالهم، من خلال محاولات رشوة العائلات المحتاجة، فيسيطرون على ما تيسر من الأحياء القديمة الأثرية التي تشكل الامتداد الشرقي للوسط التجاري!
بعد 100 يوم على جريمة الرابع من أغسطس (آب)، لم تتوقف احتجاجات أهل الضحايا، خاصة عائلات فريق الإطفاء، الذين تعرض أبناؤهم للخذلان، من قبل من «كان يعلم» من المسؤولين عن تغطية شحنة الموت المخزنة في المرفأ، عندما لم يُعلموا الفريق المذكور بالمحتويات واستسهلوا رمي شباب الإطفاء في النار. لذلك اتسعت المطالبة بتحقيق دولي؛ لأن ما حصل جريمة إرهابية لا تموت بمرور الزمن. وبالنهاية ما من جريمة من دون مجرم، ومن حق بيروت بعدما حاولوا قتل النبض فيها معرفة الحقيقة وكشف كل المتورطين: لمن شحنة الموت؟ وما الجهة التي خزنت 2750 طناً من نيترات الأمونيوم وتركت سكان العاصمة ينامون فوق مستودع متفجرات؟ ومن تواطأ في السيناريو الركيك الذي أفضى إلى الجريمة الإرهابية؟ وإذا كان التفجير قد اقتصر على نصف الكمية أين النصف الآخر؟ وأين بقية المستودعات؟ وماذا كان هناك في العنابر المحيطة بالعنبر «رقم 12» التي تأكد أنها خارج إشراف الأمن اللبناني؟
وعلى مدار الـ100 يوم التي مرت، رفضت أسر الضحايا الـ200 وأسر الجرحى الـ7 آلاف، والمتضررين أصحاب أكثر من 60 ألف وحدة سكنية، ونحو 25 ألف مؤسسة ووحدة تجارية، الموقف المزدوج عن القصر و«حزب الله» القاضي برفض التحقيق الدولي، دونما أي تبرير مقنع، فقد كانت الذريعة أنه مضيعة للوقت من جهة، وأنه من الجهة الثانية سيفتح الوضع اللبناني أمام التدخلات الخارجية (...)، فقالت الوقفات الاحتجاجية التي تكررت في محيط منزل قاضي التحقيق الرئيس صوان إن اللبنانيين ليسوا شعباً زائداً، وما حدث جريمة وليس حادثاً، والرابع من أغسطس إبادة جماعية وليس فرصة لزمرة مصرة على متابعة الانقضاض على البلد، ولو أدى ذلك إلى قتل الحياة عن سابق تصورٍ وتصميم!
لقد تأكد أن كل ما يقومون به يندرج في سياق سعي حثيث إلى دفن الحقيقة مع الضحايا، حماية لبعض كبار المسؤولين، الذين لا بديل عن استقالتهم ومحاسبتهم عن استسهال تحويل البلد إلى مقبرة مفتوحة! وهنا نشير إلى أن بين الأمور التي حركت الاحتجاجات بقوة، كان ما أعلنته منظمة العفو الدولية من شكوك، من أن السلطات اللبنانية الحالية لا تنوي إجراء تحقيق فعال وشفاف ومحايد لضمان العدالة! وحذرت في موقف بالغ الدقة، من أنه لدى لبنان تاريخ طويل من السماح لمرتكبي الجرائم الخطيرة بالإفلات من العقاب، وقالت إن هذا المنحى يتكرر الآن رغم هول جريمة الرابع من أغسطس!
صحيح أن المطالبة بالعدالة الدولية لم تتوقف، والمسألة ليست هواية بل هي يقين بتعذر الأمل في وجود عدالة محلية، والمواطن الذي اكتوى بالفساد والانهيارات وتداعيات المنهبة، يعرف أن تحمل المسؤولية لا يكون بوعود فارغة، بل كان يقتضي تسطير مذكرات توقيف بحق المسؤولين السياسيين عن الجريمة التي رمدت نصف العاصمة. الجدية تفترض أقله التوقف عند مسؤولية «حزب الله» بعدما ربطت الوقائع العنبر «رقم 12» بسيطرته على المرفأ، وبعدما تأكدت الصلة الدائمة بين عناصره و«نيترات الأمونيوم» منذ عام 2009، بدليل أن كل عناصر الحزب الذين اعتقلوا في أميركا وتايلاند وألمانيا وقبرص وبريطانيا وجدت هذه المادة المتفجرة في حوزتهم!
بعد 100 يوم على جريمة الرابع من أغسطس، لم يعتذر مسؤول، وبالطبع في لبنان لا أحد يستقيل. لكن أيضاً لم يتجرأ أي مسؤول على تفقد المنطقة المنكوبة ولقاء الناس، والكل يذكر أن زوار لبنان الأجانب جالوا وسط دمار العاصمة وواكبوا لحظات من رفع الأنقاض وانتشال الأشلاء، ولم يتجرأ أي مسؤول لبناني على مواكبتهم! ورغم ذلك يراهنون على أن المواطن المنهك بهموم يومية سيتعب وينسى، وبالنهاية سيتم التطبيع مع الوضع المفروض والتأقلم مع «ثقافة» العنبر «رقم 12»، لذلك يمضون في السعي لتأليف حكومة تستنسخ حكومات الفشل والنهب والانهيار ودوماً التبعية والارتهان.
كانوا يعلمون ولم يتحرك أي منهم دفاعاً عن حياة الناس، وتراهم أخذوا كل وقتهم في محاولات الإلهاء في مآلات صراعاتهم لتكبير حجم حصة جهة أو تصغير أخرى، لصرف أنظار الناس عن مطلب المواطنين رحيل العهد رئيساً ومجلساً نيابياً وحكومة دمى ورئيساً مكلفاً... وترى ألا يستحق هذا الحدث انتفاضة في القضاء ومنه، للإعلان أنه سيف الحق والعدل بوجه المرتكبين من فاعلين أساسيين ومتدخلين؟ وأنه موجود لحماية الناس والبلد والديمقراطية، وماضٍ في إحقاق الحق حتى الالتقاء في منتصف الطريق مع بقعة الضوء التي حملتها ثورة تشرين! إنهم يفاقمون الجرم ويقامرون بالبلد ومصالح المواطنين وحقوقهم كي يستعصي التغيير، لكن عبثاً يحاولون العودة بالبلد إلى ما قبل «17 تشرين» 2019.