بعد كل ذلك الصخب المصاحب للانتخابات الرئاسية الأميركية الاستثنائية، وانتهاء المعركة، وانجلاء الغبار، ظهر المتقافزون العرب، فرحين، وأنَّ المرحلة الآتية هي الفردوس الموعود لهم.
من الطبيعي أن تأخذ الانتخابات هذا المستوى من الانقسام في منصات السوشلة وشبكات الهتاف، مفهوم جداً لأن الصراع في المنطقة اليوم محتدم وشديدٌ حدَّ الحرب، بين محور الاعتدال وتمثله السعودية والإمارات ومصر والبحرين، وبين محور الشر الذي تمثله إيران وتركيا حالبة النظام القطري وثروته المادية ومنصته الإعلامية، ومع هذا المحور ويدافع عنه كلٌّ من (حزب الله، وحماس، والقاعدة، وبوكو حرام، وتنظيم الإخوان، وداعش، وجبهة النصرة، والحوثي، والحشد الشعبي).
إنها الحرب السياسية المحتدمة، ويجب أن تستمر نصرةً للخير ضد قوى الشر، وللعروبة ضد الفرسنة والتتريك، وللإسلام المعتدل ضد المتطرف، وويل للذين يلحدون بآيات الله.
لم يتوقف العمل الأميركي والسعودي منذ عام 1943. عملت الدبلوماسية السعودية مع جميع الرؤساء باختلاف خلفياتهم وتكوينهم وعقائدهم السياسية. حتى في مرحلة أوباما الطويلة رغم الاختلاف على عددٍ من الملفات، بقي التعاون حول الإرهاب والحرب عليه على أشدّه. نعم اختلفت السعودية سابقاً معه في الملف الإيراني حين حثّ الملك عبد الله أوباما على «قطع رأس الأفعى»، ولكن تعاونت إدارته مع السعودية في حرب اليمن، واستمرت في الدعم العسكري، وأعلنت السعودية قرار الحرب من واشنطن، وكان عدد زيارات أوباما للسعودية قياسياً.
أدركت الإدارة آنذاك ضرورة التعاون مع السعودية بوصفها مفتاحاً لحل المشكلات. أُحيلُ إلى شهادة والي نصر، كبير المستشارين في الخارجية الأميركية (ومساعد ريتشارد هولبروك، مسؤول ملف أفغانستان وباكستان) في كتابه «أميركا التي يمكن الاستغناء عنها». حتى والي نصر ليس ميّالاً إلى السعودية، ولكن الواقع أجبرهم على النقاش مع رئيس استخباراتها آنذاك من أجل موضوعات تتعلق بأفغانستان وباكستان، والمفاوضات الصعبة. لم يتم تغييب السعودية عن أجواء أميركا مع إيران رغم الاختلاف بين السياستين، حينها قال محمد جواد ظريف: «أميركا لن تسمح أبداً لإيران بأن تدخل إلى النادي النووي من الباب الأمامي، وبذلك وجب علينا القفز من السياج»، أمر علَّق عليه والي نصر: «إن جزءاً من المشكلة التي تغذّي الحراك ضد إيران هو أنَّ طهران لديها طموحات سياسية لكنها طموحات بلا أقدام اقتصادية كي تسندها».
العلاقة السعودية الأميركية استراتيجية وأساسية، لا يمكن لأميركا حماية مصالحها وتحقيق أهدافها ورفع مستوى أمنها القومي من دون التنسيق الكامل مع السعودية؛ تنسيق لم ينقطع رغم تعاقب الإدارات والرؤساء.
لقد مثّلت السعودية دائماً الثقل الرئيسي لأميركا في الشرق الأوسط بوصفها الممدّ الأول للطاقة النفطية في العالم، وللغِنى الروحي الذي تملكه؛ فهي قِبلة المسلمين، وبها قبر الرسول، والمشاعر المقدسة، والحرمان الشريفان، بالإضافة إلى التاريخ العربي العريق الذي تختزنه، ومنها انطلقت الحضارة الإسلامية إلى العالم... إنها قوة السعودية الفعلية والأبدية التي تُرعب أعداءها.
ولأن محور الشر لم يحقق أي عملٍ سياسي مفيد في ظلّ إدارة ترمب، فإنه يظنّ أن غيره لن يحقق مكاسب سياسية كبرى مع رحيله، هذه معادلة المفلسين.
تمسك قطر منذ عقود بملف المصالحة الأفغانية وجالت الكوكب كله جيئةً وذهاباً، وأنفقت أموالاً هائلة لهذا الغرض، ومع ذلك فشلت سياستها في ترتيب أي اتفاق رغم جهود السياسي الأميركي زلماي خليل زاده. اتفاق اللبنانيين في الدوحة كان اللعنة، إذ يعدّه كل العقلاء السبب الأبرز لما وصلت إليه الأمور السياسية، والانهيارات الاقتصادية، والخسوف الأمنية. إنها سياسة تجريب الفشل منذ أكثر من عشرين عاماً وأزيد.
رهان دول محور الشر أو بعضها على التغييرات في أميركا من أجل إنقاذها من براثنها يدلّ على الهوان الذي وصلت إليه، والانهيار الذي تعاني منه، والتيه الذي تتخبط به. ومن هنا أذكِّر القارئ ببعض ما ورد في مقالات الأستاذ عبد الرحمن الراشد حول فوز بايدن ومستقبل الخليج، إذ يقول: «بايدن، الرئيس المنتخب والخبير في الشؤون الدولية، يحتاج إلى تعاون القوى المهمة إقليمياً في العالم معه، ودور السعودية غاية في الأهمية في توطيد الاستقرار في المنطقة، ودورها مهم في الفضاء الإسلامي. وكما بيَّنتْ أحداث باريس الأخيرة أن العالم يحتاج إلى السعودية في قيادة العالم الإسلامي، مقارنةً بدول إسلامية أخرى لعبت دوراً تحريضياً أغضب قوى كبرى، الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. والسعودية مهمة أكثر اليوم في مجال دور الطاقة العالمي في السياسة الخارجية للولايات المتحدة».
ورهان أولئك يمتد لاحتمال إضعاف المحور الذي يضم الدول الكبرى العربية الأساسية وهو محور الاعتدال، لكنّ الراشد يردّ على ذلك بقوله: «واقعان جديدان استُحدثا في عهد ترمب سيستمران خلال إدارة بايدن: أولهما التكتل السياسي (السعودية ومصر والإمارات والبحرين)، ويمثل ثقلاً اقتصادياً وبشرياً، وبالطبع سياسياً. والآخر التوافق مع إسرائيل من خلال الإمارات في وجه إيران. ستحاول قطر من جديد تفكيك التحالف ولن تنجح. كما أن إيران وتركيا، رغم محاولاتهما العمل معاً ضد الرباعية، تواجهان صعوبات بحكم التنافس واختلاف التوقعات بين طهران وأنقرة، إلى جانب الوضع الاقتصادي السيئ الذي تمرّان به».
نعم الأصوات العالية الآتية من قطر لم تتوقف، ليست المشكلة في المضمون الركيك، ولا التعابير الشارحة لمستوى الانهيار الأخلاقي، وإنما في كون أصحاب ذلك الصوت من غير قطر، ممن لم يجربوا معنى الولاء لأوطانهم، أو الدفاع عن وطنه وأرضه وقومه وناسه، إنهم كالنائحة المستأجَرة، وعلى حد قول الفرزدق:
فلو كان عبد الله مولى هجوته... ولكن عبد الله مولى مواليا
6:5 دقيقة
TT
أمنيات محور الشر
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة