فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

السعادة الضائعة بين الآيديولوجيا والتسويق

ما تعرض له البشر خلال أشهر ليس سهلاً. الاضطراب، القلق الشامل، تصاعد الريبة من الآخر، اتساع دائرة الانغلاق، الانعزال الإجباري، كلها تجارب غير مسبوقة لإنسان عصرنا. الهزة الكبرى جرحت نرجسية الإنسان وجعلته أكثر شتاتاً واختلالاً، آخر ما تبقى له اللوذ باليقين، ومن دون ذلك يضطرب المعنى، كل المعنى.
في ظل ذلك ثمة انبعاث كثيف لما يعرف بخطاب السعادة، وهو فضاء ذو نزعة تسويقية مادية، ومحتواه واستراتيجياته بنيت على خليطٍ من القصص، والخيالات، والأوهام، مع مقولاتٍ جذابة، وتجارب غريبة، وأحلامٍ موعودة. كل ذلك القصد منه تعبيد الطريق نحو «السعادة» أمل الجميع.
وحتى الآن تبرم الدورات للتدريب على السعادة ورسم طريق التائقين إليها، هذا فضلاً عن منصات سوشيالية لجموع من المتعالمين الذين ادعوا المعرفة بهذا المجال الصعب، وزعموا اكتشاف دروب الطريق الوعر.
لم تعد السعادة مجرد خطاب، وإنما شكّلت ما يعتبره الدكتور عبد الله المطيري «آيديولوجيا السعادة» عنوان محاضرته المهمة، وعناصر ولادة آيديولوجيا السعادة يختصرها بـ«السعادة كبرنامج عمل - سعادة المقاييس والمعايير والاختبارات - خبراء السعادة - طقوس السعادة - السعادة النمطية - الإنسان النمطي - الأصل ألا تكون سعيداً - الحلم الموعود - السعادة المحجوبة»، وانطلق في محاضرته من نموذجين مطروحين للسعادة؛ أولهما: الحياة الخيّرة وهذا مسلك أخلاقي، والحالة الذهنية وهنا تدخل مسالك المتعة والتقنيات الحسية. ومأخذ المطيري على آيديولوجيا السعادة بكل استراتيجياتها المستهلكة المطروحة أنها: «عملية تغيير للحالة الذهنية بدلاً من العلاقات الخارجية، وبالتالي السعادة في الدماغ وليست في العالم»، ومن ثم يتطرق لنماذج من التطقيم والتنميط لمعاني السعادة الذهنية والتي وصلت للسعادة الأنانية. (يمكن مشاهدة المحاضرة على اليوتيوب).
من هنا فالسعادة ليست برنامج عمل جماعي، ولا يمكن وضع وصفة سحرية يتبعها الجميع كما يعتقد بعض المتصدرين للموضوع، بل تتعارض طرقها وتتناقض، وكما يشرح أرسطو، فإن «السعادة حسب العامة والخاصة، هي التي تفترض أن العيش الهنيء والنجاح مرادفان للحياة السعيدة، لكن ليس هناك اتفاق حول طبيعة هذه السعادة، ذلك أن تفسيرات الحكماء والجمهور على طرفي نقيض. فالبعض يقر بكون السعادة هي خيراً بدهياً ومرئياً مثل اللذة، الثروة، أنواع الشرف، وبالنسبة للبعض الآخر فالجواب مختلف، بل إنه يختلف في الغالب بالنسبة للفرد الواحد». وقال مثل معنى أرسطو ابن مسكويه: «فالناس مختلفون في السعادة الإنسانية، ولأنها قد أشكلت عليهم إشكالاً شديداً احتاجوا إلى أن يتعبوا في الإبانة عنها وإطالة الكلام فيها». عند كانط فإن: «من بين كل الأشياء التي يمكن أن نتصورها داخل العالم، بل حتى خارج العالم عموماً، ليس هناك شيء يمكن أن نعتبره حسناً بشكلٍ مطلق، ما عدا الإرادة الحسنة. فالذكاء وموهبة إدراك التشابهات بين الأشياء، ومَلَكة تمييز ما هو خصوصي، من أجل إصدار حكم عليه، وغيرها من مواهب الفكر... من دون شك أنها حسنة، لكن هذه المواهب الطبيعية يمكن أن تصبح سيئة ومشؤومة إلى أقصى حد، إذا كانت الإرادة التي تستخدمها، والتي يطلق على استعداداتها نعت الطبع، ليست قط إرادة حسنة. الشيء نفسه يمكن قوله عن الهبات التي مصدرها الحظ، فالسلطة والغنى والجاه والرضا عن الذات، وهو ما نسميه بالسعادة، كلها تولد ثقة في الذات وهي في الغالب تتحول إلى مجرد متمنيات، ما دام ليس هناك إرادة حسنة تسمح لنا بتصحيح مسار تأثير هذه الامتيازات على الروح، وتسمح لنا بالتوجه قدماً نحو غايات كونية، إنها المبدأ المتحكم بالفعل، ناهيك من أن أي مشاهد عاقل ونزيه، لن يستطيع أبداً الشعور بالرضا، لكون شخصٍ ما ينجح دائماً في كل ما يفعله، رغم أنه لا يتحلى بأي خاصية من خصائص الإرادة الخالصة والحسنة» لذا بحسب كانط: «الإرادة الحسنة تكون الشرط اللازم حتى بالنسبة لما يجعلنا جديرين كي نكون سعداء». (انظر: دفاتر فلسفية، السعادة، محمد الهلالي، عزيز لزرق، فيه المزيد).
والسعادة ضُربت لها طرق متضادة، فمثلما يعتبر الأبيقوري وسيلتها المتعة والانغماس باللذائذ، يرى البعض الآخر الاقتصاد بالمتع والتقشف والابتهاج العقلي وتحرير النفس من الانفعالات والتركيز على ما يمكننا لجمه؛ الطريق المضمونة للوصول إليها كما لدى الرواقي. وقد يراها فيلسوف بالأخلاق الكريمة، والعلاقة الجيدة مع الآخر، مثل أرسطو وكانط وغيرهما كما تقدم. وستيورات ميل يعرّفها بـ«تحقيق اللذة وغياب الألم». ويعتبرها آخر أنها قد تظهر لنا بالأنانية وإنكار الآخر وتحقق الذات وعدم التعامل مع الآخر إلا بوصفه موضوعاً قد يتمم نزعتنا الأنانية. يقول نيتشه: «الدنيا عبارة عن غابة تغص بالحيوانات، وحديقة يتنعم بها كل صائدٍ وحشي، ولعلها أشبه ببحرٍ زاخرٍ لا قعر له». وبينما يراها البعض بادية بشعور ينتاب الإنسان بعد المتعة، يصف شوبنهور لحظة المتعة بأنها لحظة تذبذب بين ألمين، ألم ما قبل تحقيقها وألم ما بعدها حيث الشعور بالملل.
باختصار، السعادة يصعب اختصارها بخطاب شعبي عام يمكنه أن يدبج المدائح، أو يحقق الصيت، أو يدر الأموال، فتحقيق كل فرد لسعادته مثل اختياره لحقيقته، درب السعادة شبيه جداً بطرق الحقيقة. السعادة ليست موعظة أو حكمة، ولا يمكن وضعها ضمن برنامج عام اجتماعي من خلاله تقوم المؤسسات التعليمية أو التربوية ببرمجة الناس ليكونوا سعداء.
كل جرأة على غاية السعادة تعني اعتداء بالضرورة على قيمة البحث في هذا العالم، وتقزيم لدور الإنسان في وجوده، وتدخل بحقه في صناعة تجربته.