هارولد ميرسون
TT

يسار جديد في أوروبا

هناك تيار يساري جديد آخذ في الظهور في أوروبا مع بداية العام الجديد. ورغم المخاوف التي قد يثيرها في مجتمع مهذب، فهذا اليسار الجديد يميل إلى المذهب الكينزي أكثر من ميله إلى المذهب الماركسي.
وتعتبر النظرية الكينزية إحدى النظريات الاقتصادية المعقدة، ولكن رؤيتها المحورية بسيطة: إذا توقفت كل مؤسسة عن الإنفاق، سيتراجع النشاط الاقتصادي. ورغم وضوح هذه الرؤية، استعصى فهمها على مؤسسات اقتصادية عالمية مثل صندوق النقد الدولي، وكذلك على القوة الاقتصادية المهيمنة في أوروبا، وهي ألمانيا، عند التعامل مع الركود الذي دمر جنوب أوروبا، واليونان على وجه الخصوص.
وعجزت دول مثل اليونان وإسبانيا، عند مواجهة الأزمة الاقتصادية التي بدأت مع انهيار «وول ستريت» عام 2008، عن تعزيز اقتصادها من خلال خفض قيمة عملاتها، وهو ما كان من شأنه أن يزيد قدرة منتجاتها على المنافسة. ولم يكن لديها العملات الخاصة بها؛ فعملتها هي اليورو، التي ليس لديها أي سيطرة عليها. وكانت الطريقة الأخرى التي يمكن لهذه الدول أن تعزز بها اقتصادها، هي اتباع المسار الكينزي وذلك بدفع حكوماتها إلى ضخ المزيد من الاستثمارات عن طريق تقديم حافز. ولكن عرقل الاتحاد الأوروبي، هذا الخيار بالتهديد بوقف منح جنوب أوروبا قروضا وائتمانا، إلا إذا خفضت تلك الحكومات إنفاقها بشكل كبير. وهذا ما فعلته الحكومتان اليونانية والإسبانية بدافع الخوف.
وكان المنطق المناهض للكينزية المؤيد لفرض مثل هذا الخفض في الإنفاق يرى أنه، من خلال فرض مزيد من الانضباط المالي في أنظمة هذه الدول، فإنها ستحسن من قدرتها على المنافسة وتعود إلى الازدهار؛ ولكن توابع هذا الخفض كانت بالضبط ما تنبأ به المؤيدون للنظرية الكينزية. ومع استمرار إصرار ألمانيا على فرض المزيد من الخفض في الإنفاق، ظل اقتصادها في تراجع.
وتشهد اليونان حاليا 3 سنوات تقترب من مستوى الركود عام 1932، حيث يتراوح معدل البطالة بين عمالها ما بين 25 و27 في المائة، في حين استقر مستوى البطالة بين الشباب عند معدل 50 في المائة، وإن ارتفع مرة واحدة إلى 61 في المائة. ولم يكن الوضع في إسبانيا أفضل من ذلك كثيرا.
ظل اليونانيون، لبعض الوقت، يثقون بهذه النظريات، ولكن صبرهم نفد بعد مرور 3 سنوات من اليأس دون أن تلوح نهاية لهذا الوضع في الأفق. وفي كل من اليونان وإسبانيا، تحول جزء كبير من الشعب نحو معارضة سياسة التقشف والأحزاب السياسية الرئيسية التي فرضته. وتتصدر أحزاب جديدة تنتمي لليسار، مثل حزب سيريزا في اليونان، وحزب بوديموس في إسبانيا، استطلاعات الرأي في الدولتين. ومع حل البرلمان اليوناني مؤخرا والدعوة لإجراء انتخابات جديدة في 25 يناير (كانون الثاني)، هناك احتمال كبير أن يصل حزب سيريزا إلى سدة الحكم ببرنامج يتمثل في التفاوض على خفض الديون مع الدائنين للبلاد وإعادة بعض البرامج الحكومية والاستثمارات الاقتصادية. وإذا رفض الاتحاد الأوروبي هذه المقترحات، من الممكن أيضا أن تتخلى اليونان عن اليورو كعملة لها.
تتعارض السياسات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على جنوب أوروبا مع كل درس استقيناه من التاريخ بشأن كيفية مواجهة أزمة اقتصادية ممتدة. خلال ثلاثينات القرن المنصرم، وضع فرانكلين روزفلت برنامج «الاتفاق الجديد» لتعزيز ما كان يوصف في ذلك الحين بالاقتصاد المتخلف لجنوب وجنوب غربي أميركا. وامتدت خطواته الإصلاحية لتتجاوز برامج التحفيز الناجحة مثل إدارة تقدم الأعمال، التي وفرت للملايين من الأميركيين وظائف في بناء البنية التحتية العامة اللازمة.
وكان يمكن أن يؤدي فهم مشابه لاقتصاديات الركود وتأخر التنمية إلى نتائج اقتصادية أكثر نجاحا في جنوب أوروبا على مدى السنوات القليلة الماضية. كما كان يمكن للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن تتعلم درسا من تاريخ بلادها: فقد كانت سياسات التقشف التي فرضها المستشار هاينريش برونينغ في أوائل ثلاثينات القرن المنصرم هي التي أغرقت ألمانيا بشكل أكبر في الركود الاقتصادي، ومهدت الطريق لاستيلاء النازيين على الحكم.
ورغم ظهور حزب النازيين الجدد «الفجر الذهبي» في اليونان كذلك، توضح استطلاعات الرأي في اليونان تفضيل اليونانيين لحزب الكينزيين الجدد «سيريزا». وهذا رد عاقل على حالة الإفقار الاقتصادي الجنوني التي تسبب فيها لهم الألمان.
* خدمة «واشنطن بوست»